رئيس التحرير
عصام كامل

سبعة عقود والذاكرة حبلى الألم


أبَى عام 2015 إلا أن يفعل فعلته فينا، حين جمع شهر "يونياه" هزيمة 1967 وانتصار العاشر من رمضان 1973، وكانت المصادفة عجبا، فالمهزوم والمنتصر هو نفسه، والعدو كذا ذاته، عدو يعلن عن نفسه كل يوم صراحة، بأفعال خبيثة تنهش في جسد أمتنا العربية بعد أن اطمأن جانبه إلى خلو الساحة؛ نتيجة الوهن والضعف الذي منيت به المنطقة، فيحتل أراضينا ويزرع ويمول جماعات إرهابية تعيث فينا فسادا، وتمزق البقية الباقية من أواصرنا، وتقدم صورة مكذوبة قميئة عن ديننا الإسلامي السمح، وتمتد أذرعه لتوثق الصلة بإيران لتفتيت المنطقة في صراع طائفي بغيض، وبأثيوبيا ليشتعل صراع الحياة على نهر النيل، وهكذا ليظل وطننا تغلي مراجله وتتقاذفه الكوارث في أتون فتن أطلت برأسها القبيح.


أما فلسطين فوحدها تعيش رمضانا لا تتكبد فيه مشاق الصيام وحده، بل يظل القتل والاعتقال والأسر والتعذيب والتدمير والطرد وحرق المزارع والاعتداء على النساء والمنع من الصلاة في الأقصى وانتهاك قدسيته، فضلا عن جماعات التطرف اليهودية التي تعتدي بشكل يومي على البيوت والممتلكات.. جميعها مشاهد يومية تحتضنها ذاكرة الألم في كل رمضان يمر عليهم مذ نحو سبعة عقود خلت، وهنا أتذكر "برتراند راسل" الفيلسوف البريطاني العالمي، الذي عاش أكثر من مائة، فصار كأنه قرن يسير على قدمين، لذا فكلماته وخبراته وآراؤه محل احترام عالمي كبير، كتب يقول في توصيف دقيق لجذور المأساة "إن مأساة شعب فلسطين، أن بلدهم أُعطى من قبل قوة أجنبية إلى شعب آخر لخلق دولة جديدة له، وإنّي لأتساءل: كم سيظل العالم على استعداد لتحمل هذا المشهد من القسوة الوحشية؟"، في إشارة إلى التواطؤ الغربي مع إسرائيل.

نحن والعالم وإسرائيل ندرك أن مأساة الشعب الفلسطيني ونفاق العالم الغربي لإسرائيل – نتيجة مأساة اليهود في أفران النازية - هو الذي زج بوطننا إلى حالة اللااستقرار وإلهائه عن الاهتمام بقضايا التنمية والديمقراطية، ثم شغله مؤخرا بقضايا التطرف والإرهاب والربيع العربي الموجع، في محاولة نجحت تمامًا في الدفع بدولنا التي تحررت عسكريا من الاستعمار الغربي، إلى احتلال من نوع جديد يصبح الفقر أولى أدواته، واللهث وراء التسليح أهم معطياته، لتغدو قضايا الوحدة العربية والتنمية الوطنية آخر اهتماماته، وكي تتراجع القضية الفلسطينية، وذلك هدف عدونا الأول ليسعى حثيثا محققا أمنيته الكبرى من النيل إلى الفرات.

نتيجة الوهن الذي نحياه لم نعد نجرؤ على أن نردد مطالبنا المشروعة، بأن تنسحب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 67، ولا ندعي أننا قادرون على إيقاف مسلسل القتل والانتهاكات المتواصلة في فلسطين المحتلة، بل لن ننبس ببنت شفة بخصوص عدم تقسيم القدس، فعدونا فعلا لن يقسمها إلى قدس شرقية وأخرى غربية، بل سيبتلعها كاملة عاصمة موحدة لدولته الغاصبة، كما أعلن بكل وضوح وصراحة، تماشيا مع صراحته التامة في الاستمرار في بناء المستوطنات وطرد العرب من منازلهم، والرفض التام لعودة اللاجئين.

حجمنا الحقيقي لم يعد غافلا على أحد، وعقلية الوهن صرنا نحياها ونتجرعها، والذاكرة الحبلى بأمجاد العرب أضحت خيالات وأوهاما بعيدة عن التحقق على أرض الواقع.. تراني أغرس اليأس في النفوس، أم أن أولى خطوات حل مشاكلنا تكمن في التوصيف الدقيق لها، ومعرفة إمكاناتنا الحقيقية وتبصيرنا بنقاط ضعفنا للتغلب عليها، ومن ثم مواجهة الأخطار التي تجابهنا؟

ومع ذلك يحدوني الأمل دائمًا، في أن الغد يحمل إشراقته، وأن الأجيال القادمة ستقبض على الزمام بعقول واعية وهمم عالية؛ لتحقق ما تمنيناه وفشلنا فيه، فعلى وعيهم بعدوهم الحقيقي نراهن وحتمًا سنكسب الرهان.
الجريدة الرسمية