رئيس التحرير
عصام كامل

إنها الدمشقية


الكتابة عنها بكل تأكيد كتابة من يمشي محتارا بسن قلمه في متن عمق التاريخ، فأية زهرة منه يختار، ليكتب عن هذه العريقة.. فكم من مليحة سقطت في فك حمار بهيم على شكل بني آدم جلف، يهدم حاضرها ويحجب ملامحها النبيلة ويخرب كل ما فيها، ويرجم كل إرث تركه أهلها.. ولكن بقدرة الله الذي رعى الجمال، يفك كربها بتسهيل الأقدار ويسير لها الرجال الشرفاء الوسماء يحررونها من أسر قوم الزور.


نعم، إنها سوريا هي من أعني حديث الحق عنها.. ليس كرد للجميل لها ولفضل أهلها.. وليس من أجل الدم والنسب والحلم المشترك، إنما أتحدث فرحا وشوقا متباهيا بحسن المليحة التي عمرت الدنيا بالخير والنصر المؤيد الذي طالما تفوز به على أعداء النهار والحياة ولصوص البدو وجهلاء الدين، هكذا تخبرنا عيون المليحة الباقية.

هي بشهادة علماء العالم مركز لإحدى أقدم الحضارات التي عرفتها البشرية، فيها استقر وبنى وعمر أول تخطيط بشري للمدن.. أول من حضنت الأرض بالمنجل والمحراث وغرست الطيب لينبت الزرع الأخضر، أهلها أول من ساسوا وتدجنوا الحيوانات، لسانهم أول من عرف وطور الأبجدية، وفي زمن عتمة الجيران ووأد البنات، عرف الفنان الأول قدسيتها فرسم مجسم الأنثى السورية عامرة الخيرات.. فكانت دمشق أول مدن الدنيا وأول حصن وأول عاصمة منذ أحد عشر ألف عاما تقريبًا.

باختصار، إن لسوريا العبق كما لمصر عبر الزمن السحيق.. حضارة وعلم وفن وجمال.. تحت كل ذرة تراب سوري تجد نسلا طيب الأعراق من أقوياء الأرض.. فالجمال حين تراه في وجوه السوريات تأكد أنه ليس عبثا، بل جينات المنبع المصفى للكمال الطبيعي.. إنها أرض كُتب عليها لن يبور فيها الجمال أبدًا.

كل هذا وأكثر، فلا خوف عليك يا أيتها السورية، ومن مثلك، فعليها أن تضحك على عبث الخصيان أسفل جدارها المنيع، فأنت ومن يقدر على فك خصلات شعرك المشرقي؟!.. فلا تحزني إن لاغت كلاب الحي في صحنك ودنست منك تدمر.. جهلاء لا يعلمون من هي زنوبيا التدمرية، دمار على كل من اعتدى على كبريائها وإن وقعت في الأسر!

يا مصر قومي، وصححي واقع النحوس هذا، وهبي لرفيقة الدرب الدمشقية قبلة الحياة، فلها عليك عهد وكرامة، فأين تحتمس الفرعوني الذي دون اسمها "تيمساك" عشقا في ألواحه.. قومي يا قاهرة، واقرئي رسائل تل العمارنة عن "تيماشكي".. هي حصن النيل الأول والأهم لنا.. حائطنا وعمقنا في مواجهة التطرف، وغل الجبناء، ورعاع الغزاة، وحقد الإرهاب، وتجار الأديان، ومصاصي المدن، وسماسرة الثورة!

وفي مرور التاريخ علينا، يثبت في كل مرة بالدليل أن سقوطها يعني سقوطنا، رخاؤنا من استقرارها.. لماذا الآن نجهل أنها أرض من العزة والكرامة؟.. أنف شامخ لنسائها قبل رجالها لمَ يُكسر أمامنا؟.. في عيون أطفالها وسامة ترسم الغد الوضاح فمتى يرق قلبنا؟.. إنه نطع السكك يستغل جهلنا بها، ويتربص طمعًا فينا وفي المليحة الدمشقية.

فاستقري يا مليحة، ولا تهابي الغربة في موطنك ولا اغتراب جميلاتك، ووقوعهن تحت وطأة الجهالة وعفن هياكل المسخ التي تسلب درة حُسنك.. لا بأس، فأنت الدار والأرض المسقية، والفيحاء لا تساع بدن دمشقك وطيب رائحتها الزكية، فطب خاطرك بمن عظمك من الأوائل في وصفهم لك "ما وُصفت الجنّة بشيء، إلا وفي دمشق مثله"، "وعز الشرق أوله دمشق لو تعلمون".

ويكفيني فخرا، وإن كنت من الآواخر، أني أحبك أيتها الدمشقية، وأقول "ومن حب دمشق ما يصنع الحياة أوله سجدة على جبين بابها وثانيه ولوج يجلب النهار.."!

أتعرفون إذن من هي الدمشقية؟.. الرحم الخصوب وأرض الرجال وجنة الجميلات.. أعرفتم يا شر الدواب؟!
الجريدة الرسمية