رئيس التحرير
عصام كامل

من الإبرة للصاروخ


اعتزلت عن طيب خاطر دوشة الفيس بوك وتويتر.. واخترت الابتعاد عن التأويل أو التعليق على دوامات الصراخ والتندر بين التأييد والرفض للمواقف السياسية الأخيرة والتغييرات الحكومية عند كتابة سطور هذا المقال.


لن يُجدي الحديث.. وأظن أنه يكفي بالقارئ ما قِيل.. ففضلت العودة للوراء قليلا وتأملت من جديد مشهد افتتاح أعمال تطوير العديد من المصانع، والرامية إلى إنتاج مركبات ومدرعات، والعديد من المشروعات الأخرى التي تبناها الرئيس لتشجيع الشباب على العمل دونما انتظار عليل للوظائف النمطية والتقليدية غير المتوافرة حاليًا.

وأثناء مشاهدة أساطيل الصناعات الثقيلة تزهو على الأرض بأيد وعقول مصرية خالصة.. هاجمتني ذاكرة الأحلام وانتقلت بفؤادي إلى أيام لم أعشها واسترجعت فجأة بابتسامة شاخصة نهاية كل النقاشات التي كانت تحضر دائما على مائدة الحديث مع رواة وأنصار الحقبة الناصرية كلما كانت تأتي سيرة عبد الناصر ويحتدم النقاش بيننا حول الديمقراطية والحريات.. وفجأة يذهب الحوار إلى منحنيّ آخر حول ذكريات مصر العظمي.. التي كانت على وشك صُنع مجدها بنفسها ـ من الإبرة للصاروخ ـ !

كنا ننصت جميعًا حتى المتفلسفون منا، وأصحاب عقيدة التشكيك في كل شيء وكأن هناك حالة من الإجلال تهبط على المكان، فتجعلنا نرتكن سريعا لأحلام الشموخ والعزة بالكد والكفاح.. حتى لو كان المسار أعُد له طريقًا غير آمن.. فأفشله وأبعده عن قواعد النجاح الذي كان ينتظره.

طوال العرض انشغل بصري فيما تم إنجازه بينما تاه خيالي في غرابة الأقدار التي تُلازم هذه البلاد.. وانهمرت الأسئلة تعتصر عقلي.. كيف لا توجد في مصر صناعة حتى الآن..وأين كنا منذ أحلام الستينات.. ولماذا توقف المشروع.. وأين بدائل من تفرغوا لتطويق التجربة الناصرية بالانتقادات وحصرها في " ذنوب فكرية".. زعموا أنها حالت دون استكمال المسيرة !

ما الذي فعلوه من بعد رحيل صاحبها.. وأين التركة التي أورثهم إياها من الأصول الضخمة لمصانع وشركات كانت قادرة على نقل البلاد إلى حيث يجب أن تكون !

مرّ المشهد.. وتزاحمت التساؤلات أكثر.. وحتى أفلت من هذه العقوبة على التفاؤل الذي أميل إليه بشدة لكن لا بد أن يكون مصحوبًا بأدواته.. ارتكنت في النهاية للتسليم بأنه من الصعب الوقوف بشكل دائم عند أحلام الأمس " برجاله ".. لنقل مصر إلى مصاف الدول العظمي.. بما يجعلها قادرة على قيادة الشرق الأوسط والوقوف ـ ندًا بند ـ في وجه الإمبريالية والتسلط الغربي على شعوب المنطقة.

ثم وضعها في مقارنات لا تنتهي مع أحلام اليوم بمصر قوية مؤثرة دون التورط في صراعات إقليمية ودولية.. دولة ناجحة في كل المجالات تلحق سريعًا بقطار التقدم الذي فاتها وحط الرحال بغالبية الدول المجاورة التي كانت حتى وقتٍ قريب لا همّ لها إلا محاكاة التقدم والرقي فقط.. من وحي أمجاد التجربة المصرية!

ويبقى السؤال: هل يستطيع الرئيس استعادة أحلام مصر العظمي القادرة على إعادة اكتشاف نفسها من الإبرة للصاروخ؟ الإجابة ستكون بلا شك نعم ، لكن: هل يستطيع حشد الأدوات البشرية والمادية وتوفير المناخ الآمن فكريا وثقافيا وعلميًا بمقاييس الزمن الحالي لإعادة إنتاج المارد المصري من جديد؟.. شخصيًا.. أتمنى.
الجريدة الرسمية