رئيس التحرير
عصام كامل

الحياة في عاصمة الموت


فوق ربوة خضراء عالية بقلب العاصمة الأرمنية يريفان كانت منصة إحياء الذكرى المئوية لمذابح الأتراك ضد الشعب الأرمنى.. منصة تضم ممثلين لـ٦٩ دولة مشاركة بوفودها في الاحتفالية.. درجات الحرارة تحت الصفر، وسرعة الرياح تنفذ بسموم البرد القارس إلى العظام.. في بطن القمة الجبلية الخضراء يقع متحف الإبادة.. درجات سلم تأخذك إلى العمق السحيق، حيث يلف الظلام والضوء الخافت صورا مروعة لأكبر مذبحة في تاريخ البشرية.


إلى يمين المنصة يقع النصب التذكارى برخامه الأسود الداكن وملايين الزهور يلقيها بشر آخرون يرفضون تكرار المأساة، وأمام المنصة كورال كنسى وموسيقى عبقرى الأرمن الموسيقار مجداس، تنساب مع أصوات متعددة تردد في مشهد مهيب بعضا من أغانيه وأناشيده التي استمدها من قلوب الفلاحين، وفى الصف الأول يجلس رؤساء صربيا وقبرص وفرنسا وروسيا وأرمنيا، ومن خلفهم كنت مع الدكتور أرمن مظلوميان المصرى الأرمنى النشط.

على يسارنا كان وفد من تركيا.. تحدثت معهم.. يقولون بلادنا صاحبة حضارة، والحضارة تفرض علينا جميعا أن نعترف بما اقترفت أيادينا من مذابح إنسانية خلفت أكثر من مليون ونصف المليون ضحية، إضافة إلى ستمائة ألف طريد ومهاجر قسرا إلى بلاد بعيدة، في رحلة كانت أقسى من الموت.. حقا كما كان في ماضى الأتراك رجال عظماء رفضوا المشاركة في المذابح، منذ مائة عام فإن حاضرهم لا يزال يقدم عناصر إنسانية تسير على نفس الدرب.

لا تزال موسيقى مجداس تغلف الموقع بذاكرة الريف والفلاحين والمنجل.. كان مجداس يردد “الشعب هو أكبر مبدع، اذهبوا وتعلموا منه...المحراث والمنجل والأحجار كلها مقدسة بالنسبة لي”.. نجا مجداس من الاعتقال والقتل أثناء المذابح، غير أن ما اختزنته ذاكرته من مشاهد الموت والحرق والمطاردة دفع عقله للقفز من داخل بدنه، أصيب بلوثة عقلية، عاش ما تبقى حبيس سيل الدماء ورءوس الأطفال المتطايرة وصرخات النساء.. كان الموت نهاية سعيدة له، ولكل محبيه الذين رأوه وهو يجمع تراثا موسيقيا عابرا للقارات، وللأحاسيس، ورأوه وهو محاصر بين أشباح الجريمة الكبرى لا يقوى على العزف بعد أن فقد أوتار قدرته على الحياة.

هل كان يعلم مجداس أنه وبعد مائة عام سيلتف العالم كله حول نصب تذكارى ينصت إلى مقطوعاته التي جمعها من بيوت الأرمن في كهوف الجبال، وعلى أسطح منازل بسيطة، لقد كان يتسلل خلف قروى بسيط يغنى وراء محراثه أغنيات ترسم أقاصيص أول شعب يوحد الله خلف المسيح، شعب لا يزال يحتفظ في كل صوره بجبل (أرارات) الذي يقول تاريخهم إن سيدنا نوح هبط بسفينته فوقه، وإن هذا سبب تسمية يريفان عاصمتهم إذ تعنى بالأرمنية "أنا أرى"؟

هل كان يدرك أن حفلاته التي صال بها وجال في عواصم العالم من باريس إلى الإسكندرية، ستتكرر هنا فوق تل الربوة الذي يحمل على عاتقه نصبا تذكاريا يجسد مأساة شعب؟ وهل كان يعلم أن عقله الذي فقده سيحيا مرة أخرى في ضمير البشرية وهو ما عبر عنه الرئيس الأرمنى سرج سركسيان مرددا بعضا من أفكار مجداس.. إن الاعتراف هو ضمير ضد الكراهية، داعيا إلى النضال من أجل حماية الإنسانية من تكرار الجريمة النكراء.

مضى الرئيس الروسى بوتين بخطوات ثابتة نحو المنصة.. ردد “إن أحداث ١٩١٥م هزت العالم كله”.. قتلت مليونا ونصف المليون أرمنى وشردت ستمائة ألف في كل قارات العالم.. انتهت الكلمات الرسمية، وانطلقت الوفود في واحدة من كبرى المسيرات الإنسانية.. تحت نير أمطار غزيرة لم يتراجع ممثلو الدول، ولا شباب الأرمن ولا عجائزهم، ولا رجالهم ونساؤهم، الكل يحملون الزهور منكسة، يضعونها داخل النصب التذكارى ثم ينطلقون في المسيرة عبر شوارع العاصمة يريفان.

على أن الأرمن بكافة طوائفهم مواطنون وكبار مسئولين يناضلون تحت شعار “حتى لا تتكرر المأساة”.. رجال الدين يرددون هناك “ورثنا كارثة إنسانية ولكننا لم نرث الكراهية”.. على كل بناية.. على شبابيك السيارات.. فوق الملابس.. على الأشجار.. صورة واحدة اجتمعوا حولها.. الزهرة الخماسية رمز الذكرى التي تؤكد تشردهم في قارات خمس، حتى أصبح عدد الأرمن خارج أرمنيا أكثر من ثمانية ملايين بينما يعيش فيما تبقى من أرض أرمنيا ثلاثة ملايين فقط.
الجريدة الرسمية