رئيس التحرير
عصام كامل

إضراب الموظفين بين الإباحة والتجريم


ثار الكثيرون ثورة عارمة، بعد أن صدر حكم من أعلى محكمة لجهة القضاء الإداري في مصر، وهى المحكمة الإدارية العليا، قضت فيه بأن إضراب الموظفين العموميين بالمرافق الحكومية جريمة تأديبية تستوجب العقاب التأديبي.


من اعترضوا على الحكم، لم يقرأوه، ولم يفهموا ما ورد به، ولم يدركوا نطاق تطبيقه؛ إذ تجب التفرقة بين الإضراب في المرافق الحكومية التي يسري عليها قانون الخدمة المدنية، وبين الشركات التي تخضع لأحكام قانون العمل، فالإضراب في المرافق العامة الحكومية محظور، ويشكل جريمة تأديبية جسيمة تستوجب توقيع العقاب التأديبي الذي قد يصل إلى حد فصل الموظف العام من الخدمة، إذا ترتب على الإضراب أضرارًا خطيرة وجسيمة.

نعم، أصابت المحكمة في حكمها، إذ أن الإضراب باعتباره من الوسائل التي يلجأ إليها العمال في حالة تعسف رب العمل ضدهم وحرمانهم من بعض الامتيازات المهنية، فيلجأون إلى الإضراب لحمل رب العمل على إجابتهم إلى مطالبهم، أمر قد يكون مستساغًا في علاقات العمل التعاقدية التي تقوم على اتفاق بين رب العمل والعامل على شروط العمل، وهو الأمر الذي لا يتحقق على الإطلاق في علاقات العمل التنظيمية كالعمل في أجهزة الدولة الحكومية المختلفة، فموظف الحكومة يشغل مركزًا وظيفيًا تنظيميًا تحكمه قوانين ولوائح تنظم الوظيفة العامة، وقد وافق الموظف قبل التعيين على أن يشغل الوظيفة الحكومية وفق ما جاء بهذه القوانين واللوائح من أحكام، ومن ثم لا يجوز له بعد ذلك أن يلجأ إلى الإضراب للضغط على جهة الإدارة، وإنما أمامه أن يلجأ إلى القضاء الإداري لإلغاء القرارات الإدارية الصادرة ضده والتي يرى مخالفتها للقانون وله الحق في أن يطلب كذلك التعويض عن الأضرار التي تلحق به نتيجة أي خطأ ترتكبه جهة الإدارة في حقه، إنما ليس من حقه أن يعطل أعمال المرفق العام ، ويصيبه بالشلل.

وليس صحيحًا ما يذهب إليه البعض من إباحة الإضراب استنادًا لورود نص في الدستور بذلك؛ إذ أن القاعدة القانونية الأصولية أن شرط ممارسة الحق أن يكون على الوجه الذي ينظمه القانون، فإذا لم ينظم القانون كيفية ممارسة الحق، يظل حقًا نظريًا بحاجة إلى تنظيم من المشرع يبين ماهيته وكيفية ممارسته، وإلا تحول الأمر إلى فوضى، وقد نظم المشرع الإضراب في قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 بالنسبة للعمال بالشركات الخاضعين لأحكام هذا القانون، في حين لم يصدر حتى الآن قانون يجيز الإضراب للعاملين بالمرافق الحكومية، بل على العكس فإن قانون العاملين المدنيين بالدولة وقانون الخدمة المدنية الجديد يلزمان الموظف بالانتظام في أداء أعمال وظيفته، وذلك التزامًا من المشرع بمبدأ دوام سير المرافق العامة بانتظام واطراد، وعدم جواز تعطيلها عن العمل لأي سبب من الأسباب، والذي يعد من المبادئ الأساسية في القانون الإداري، فضلاً عن أن نصوص الدستور تكمل بعضها البعض، وقد نص الدستور على أن الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيًا للتشريع، وبالتالي فإن ممارسة حق الإضراب لموظفين الحكومة على فرض صدور قانون ينظم ذلك، مرهون بأن لا يتعارض هذا القانون مع أحكام الشريعة الإسلامية، والتي استنت قاعدة درء المفاسد تقدم على جلب المنافع، وقاعدة أن الضرر لا يزال بمثله، وأنه لما كان الإضراب يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمتعاملين مع المرافق العامة، فإن الشريعة الإسلامية لا تبيح هذا المسلك لما فيه من أضرار بالناس، بالإضافة إلى أن الإضراب سواء كان من الحقوق أو من الحريات، فإنها يتعين الالتزام في ممارسته بحدود هذا الحق، وبعدم الانحراف عن الغاية منه، وبالتالي فإن إعمال حق الإضراب رهين بوضع القوانين المنظمة له بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية.

و ليس أدل على عدم جواز ممارسة حق الإضراب قبل صدور قانون ينظم ذلك، أن اتفاقية العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي صدقت عليها مصر عام 1982، والتي استند البعض إلى أنها تبيح الإضراب، قد نصت في المادة الثامنة على أن يمارس الإضراب طبقًا لقوانين القطر المختص؛ ولذلك فإن المشرع المصري نظم حق الإضراب في نصوص قانون العمل رقم 12 لسنة 2003، بينما لم ينظم حق الإضراب في قانون الخدمة المدنية الذي يسري على موظفي الحكومة، ومن ثم لا تجوز ممارسته بالنسبة لموظفي المرافق الحكومية، وحتى بالنسبة للعاملين الخاضعين لأحكام قانون العمل فإن الأمر ليس مطلق هكذا بدون ضوابط.

فقد نصت المادة 192 من قانون العمل على أن "للعمال حق الإضراب السلمي، ويكون إعلانه وتنظيمه من خلال منظماتهم النقابية دفاعًا عن مصالحهم المهنية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك في الحدود وطبقًا للضوابط والإجراءات المقررة في هذا القانون..."، ونصت المادة 193 من ذات القانون على أن "يحظر على العمال الإضراب أو إعلانه بواسطة منظماتهم النقابية بقصد تعديل اتفاقية العمل الجماعية أثناء مدة سريانهم، وكذلك خلال مراحل وإجراءات الوساطة والتحكيم".

ونصت المادة 194 من ذات القانون على أن "يحظر الإضراب أو الدعوة إليه في المنشآت الاستراتيجية أو الحيوية، التي يترتب على توقف العمل فيها الإخلال بالأمن القومي أو بالخدمات الأساسية التي تقدمها للمواطنين، ويصدر قرار من رئيس مجلس الوزراء بتحديد هذه المنشآت، وهو ما يبين منه أن المشرع في قانون العمل رقم 13 لسنة 2003 نظم الحق في الإضراب، ولكن وضع عليه بعض القيود، ومن أهمها إبلاغ السلطات المختصة من خلال اللجان النقابية، وحظر الإضراب في بعض المنشآت الاستراتيجية والحيوية، التي يترتب عليه توقف العمل فيها الإخلال بالأمن القومي والخدمات الأساسية، التي تقدمها للمواطنين، وفوض بخصوصها المشرع رئيس مجلس الوزراء في تحديد هذه المنشآت، على أنه يلاحظ أنه في حالة مخالفة ذلك _ وهو القيام بالإضراب _ يقع مرتكب هذا تحت طائلة الجزاء التأديبي دون أن يعد ذلك اخلالا بالاتفاقية الدولية على الإطلاق أو بأحكام الدستور،هذا فيما يخص العاملين الخاضعين لعلاقات العمل التعاقدية.

أما العاملين بالدولة فلا يوجد قانون ينظم ممارسة الإضراب حتى الآن، ومن ثم فهو محظور بالنسبة لهم، ومن ثم يمكن القول أن المشرع المصري أباح الإضراب بضوابط في علاقات العمل الفردية وفقًا لأحكام قانون العمل رقم 12 لسنة 2003، واعتبره مخالفة تأديبية للعاملين الخاضعين لعلاقات العمل التنظيمية واللائحية وفقًا لأحكام قانون العاملين المدنيين بالدولة، وهذا من قبيل التنظيم التشريعي الذي يحقق التوازن بين المصالح الفردية والمصلحة العامة.

وأخيرًا فإن عدم تجريم الإضراب من الناحية الجنائية، لا أثر له على تجريمه من الناحية التأديبية، بحسبان أن الأصل المقرر قانونًا أن استقلال الجريمة التأديبية عن الجريمة الجنائية، وعدم جواز رد التأثيم التأديبي إلى التجريم الجنائي؛ لما في ذلك من إهدار لاستقلال الدعوى التأديبية التي تختلف في أغراضها ومراميها عن الدعوى الجنائية.
الجريدة الرسمية