رئيس التحرير
عصام كامل

إشراق البدايات


لا أتحدث عن حال عبد من عباد الله، ولكن أتحدث عن حال أمة أشرقت شمس بدايتها بعد ظلمات عجاف حجبت نور البصيرة عنها لسنوات، ولا أتحدث عن إشراقها بلسان المتفائل المتوسم، ولكن أتحدث بسيف حق سنة الله في أرضه المشهور في كتابه العزيز "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص"، فجعل المحبة في كل صف قام في سبيله، وما أحب الله قوما إلا تولاهم، ومن تولاهم حارب من عاداهم، فقد قضى أمره بالحق "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".


وما المحبة إلا رحمة، والرحمة إرادة إيصال الخير، وهو المتحقق بصلاة الله على الأمة، فذلك قوله "هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما، تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما".

وقد تولى الحق سبحانه قيادة جنده، وأحكم فصل أمره، فقضى "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون"، فاجتماع الأمة على محاربة عدو محكوم بدستور إلهي وأمر الله فيه الذي حدد من العدو الذي تجب محاربته، بما يعقد لهم فيه راية التمكين، فأتى أمره لما أتم نوره، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين، فلم يأمر بحد السيف إلا على القوم الظالمين، ورفعه عن الآمنين، وهو ما ينطبق على من ظلم الإسلام بالإسلام بجهل، فكان ظلوما جهولا كداعش وغيره، ومن أطل برأس شيطانه على عموم الناس. 

وقد اجتمع العرب على سيف واحد، فإن صدقوا، فيد الله فوق أيديهم ولو كره الكارهون، ولما لا، وقد استودع فيهم خير النبوة وإمامها، وأنزل بلسانهم إمام الكتب وسنامها، وجعل لغتهم من فضل الكتاب على سائر الكتب، وخصهم بالفضل في سائر الرتب، وأسمع فضيلة قوله صلى الله عليه وسلم "أحبوا العرب لثلاثة لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي". 

فما جار على وحدة صفهم جار إلا قصمه الله، وما نهض للعرب قائم إلا نصبه، فكأن حرف العين في كلمة العرب يقصد بها عين علم رب أظهر جوده من رحم العروبة هاجر المصرية، التي سعت بصفاء السريرة بين الصفا وركن المروة، فالأم أصل الشيء وتكوينه، والعرق دساس وهي تعيينه، فالسعي مصر في كل مهمة، بصفاء الأخوة وعزم المروءة، فإن سعت مصر كان السعي حيا في كل أمة بالاقتداء، فهي أول فاعل، كسعي هاجر بين الصفا والمروة من الشعائر، أما الميم فيقصد بها مصر مجد الله فيها، والصاد صدق المؤمنين رجالها، والراء كفلي يدي رحمته سبحانه وتعالى، فهي أرض تجلى بها الإله من جبل عزة، وشق لها نهر من جنان فردوسه المظلل بعرش الله بجوده، ورسم النهر فيها كالسهم في مصب البحر جناحه، ورأسه في الصعيد مسهم، فصارت أرضها كنانة للسهم. 

وأهلها خلقهم من طينة تراب عزها وماء سموها، فكانوا سهم الله في الأمة، وأزال بحد سهم بأسهم كل غمة، فكانوا خير جند الله كلهم، ولم يصدع بكبرياء كلامه إلا بين مسمع جناحي سهم بحرها، بسيناء مصر العزيزة، وسمعت ولم يسمع غيرها سوى كليمه، وتجلى فرأت من تجلياته ما لم تراه البسيطة، فهي صخرة في جبل كبرياء الله، من أرادها بسوء قسمه الله، وإن أرادت خيرا قسم الله لها الناصر صلاح الدين والقدوة. 

وكأني أنظر لصلاح الدين وقد نفض تراب الخزي والهوان فما أشبه اليوم بالأمس، وقد كانت بلاد العرب مستباحة بألوان خسة الاحتلال الغربي، وبعد ما صبغ العرب والمسلمون عنوة بالفكر الشيعي، الذي قامت عليه الدولة الفاطمية، إلى أن أرسل الله غمد السيف الأمير نور الدين الزنكي، الذي مسح بلاط الشام من الشؤم، إلى أن أذن الله ببعث السيف من غمده، ليعيد للإسلام مجده، بالناصر صلاح الدين والدنيا الأيوبي، الذي أكمل المسير، فجمع الناس على قلب رجل واحد بثورة في الخطاب الديني لتجريف الفكر الشيعي، وإخراج السم الاستعماري بلواءات قدر الله رفعتها برجالها، وهي لواء فكري لأبي حامد الغزالي بإحياء علوم الدين، ولواء شرعي بإحياء المذاهب الأربعة في الأزهر الشريف، ولواء تربوي بالتصوف السني بقيادة الشيخ عبد القادر الجيلاني، فنشر ساحات التصوف في الأرجاء التي أعادت الصفو للأجواء، فصارت إقامة فروض الله كلها شعيرة لقاء يوم جمعة. 

وتلك الحركة في تجديد الخطاب الديني التعليمية والتربوية والفكرية، كانت وقودا لا ينضب في الحركة الإسلامية، التي أثمرت بتحرير المسجد الأقصى المبارك، ونسج الأمة العربية والإسلامية في نسيج واحد بعد ما مزقته الفتن. 

وفي النهاية، أرى أنه لابد أن تكون هناك إرادة وتوجه حازم، من السيد رئيس الجمهورية في تفعيل الثورة الدينية فكريا وشرعيا وتربويا، بما يتناسب وأدوات العصر، وله في الناصر صلاح الدين قدوة حسنة، فلا بد من رسم خريطة طريق محددة المعالم والتوجه، والمدة الزمنية للانتهاء من وضع تصور مرحلي، وتحديد الأثر المرجو ثمرته، أما ترك الأمر بالإجمال لمجتمع العلماء وحدهم، فالعلماء أهل حلم لا أهل حزم، ومع الاحترام الكامل للأزهر الشريف فوقع تحركه لا يتناسب مع الوتيرة، ونحن في زمن النجدة والإسعاف، والسفك والإرجاف، وموج بحر الفتن يتلاطم من كل صوب يفنى ويبيد، ويتسارع ويزيد، فنصف حل المشكلة إدراك وجودها، ولا يبقى إلا إقامة النصف الآخر، وهناك من أدوات إقامته الكثير ويضيق ذكرها في المحل، وما أرى إلا إشراق في أفق جديد من شمس قدر الله وجودا لها لا تغيب، فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته، فأبصر به وأسمع، والله يتولى الصالحين والله أكبر وأعلى وأعلم.
الجريدة الرسمية