رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

عباقرة في زمان الواوا


يخطئ من يتصور أن زمن العباقرة قد ولى وانتهى، وأن الإبداع الحقيقي كان قاصرًا على رواد الفن الجميل في أيام الفن الجميل، فلا تزال الأغنية العربية بخير، ولا تزال المضامين غير المسبوقة تهل علينا، حتى تكاد تصيبنا بعسر الهضم، حيث استبدل الغناء بالشعر الطويل، والرمش الكحيل، والأسنان اللولي، بالغناء بالباط، والقفا، والركب، ولا داع للغناء عن الداندرما طالما نحن في زمن العنب.


كما لم يستسلم الأفاضل من مطربينا، ومطرباتنا، للتقاليد البالية، والموضة القديمة في حتمية ارتداء الملابس المحترمة، إذ لم يعد هناك ضرورة لاحترام مشاعر الناس، وعلى رأي المثل ( إلبس ما يعجبك، وسيب اللي يتفلق يتفلق ).

أما على مستوى التجديد اللغوي في الأغنية العربية، فحدث ولا حرج، إذ استطاع نخبة الفن والطرب ما لم يستطعه الأوائل، وأضافوا من عبقريتهم على أبجديتنا ما لم يتوصل إليه علماء اللغة العربية، أمثال: سيبويه وخلف الأحمر، والأصمعي.

دح...نح...يح....واه...وووو....وي ي ي...آه، فهذه ليست كلمات من القاموس الفرعوني، ولا وجود لها في معجم اللغة العربية، بل أصوات أضافها جهابذة نجوم الغناء في وطننا العربي، وكذلك تفنن فيها عباقرة الملحنين في زماننا هذا، بتقديم هذه الأصوات في إيقاع سريع، وخفيف من شأنه أن يسهل من انتشارها، وأصبح الأمر المحير بعدم معرفتي بدلالات هذه التأوهات، بجعلي أخوض لحظات صعبة، بحكم كوني أعمل بالموسيقى، واللغة العربية، إذ سألتني ابنتي عن معنى " ها...حا....والنص أه " وهو سؤال على قدر اندهاشي منه، على قدر ما أوقعني في "حيص بيص" حيث اكتشفت أن خبرتي لأكثر من عشرين عامًا في اللغة والموسيقى، تجعلني أقف عاجزًا أمام ابنتي في تفسير معاني هذه اللغات الحية الجديدة، أو إدراك معاني دلالاتها المقصودة من جهة أمراء الشعر الغنائي المعاصر لنا، ولأبنائنا، الأمر الذي جعلني استشعر أني أصبحت في نظر ابنتي – رغم الدكتوراه – فاشلًا، وربما "دقة قديمة" أشبه بالكائنات المتحفية في متاحف الشمع.

إلى أن أوت ابنتي للفراش، وانفردت بنفسي، وتساءلت عن دلالات هذه الأصوات التي نسمعها كل يوم، وإلى من توجه، وهل توجه إلى الشباب كنوع من تغييب الوعي ؟ وهل الشباب بحاجة إلى هذا التغييب ؟

وهل هذه التأوهات الجنسية، هي رسالة القائمين على تثقيف هذا المجتمع، وما انتهى إليه من هجران للموسيقى الجادة، واللغة الإنسانية الرفيعة ؟ وهل تهذيب الوجدان يتأتى بإثارة الغرائز على شاكلة الأغنية التي تظهر فيها الفاتنات، تضغط بها على أعصابنا، وهي تغني " إلعب..إلعب "، ولم تحدد لنا طبيعة الملعب الذي تريد أن تجرنا للعب فيه، مما يدفعنا للإحساس بأننا مستهدفون للسقوط.

إن ما نحن فيه هو نتيجة حتمية لما نتابعه بغرائزنا أمام شاشات التلفاز كل يوم. إن تأوهات النساء، المحاصرة بعدسات الكاميرات، وتلتف حول أجسادهن، تدفع بأي مؤمن لأي قيمة بأن يقدم أكاليل الغار للشهوة بعد النظر إلى الأجساد المثالية التي عانينا من الاشتياق إليها في حياتنا الدنيا، ولم نجدها إلا في جنة القنوات المتخصصة، هذا المنهج الذي يروج لمثل هذا النوع من التجارة، لا يقل خطورة عن تجارة المخدرات، فكلاهما يوفر الكسب السريع، وكلاهما ينقل الشباب من الحالة الطبيعية إلى حالة الغيبوبة، التي تدفعهم إلى الشعور بالنقص والاحتياج، ومن ثم تعويض هذا النقص، وهذا الاحتياج، إما بالتطرف " الإرهاب "، أو بالانغماس في حالة التلاشي، الأمر الذي يدفع جل المجتمع، إلى أن ينتفي وجوده.

إنني لا أجد فرقًا بين شاب يجلس أمام التليفزيون يشاهد أغاني " البرنو كليب "، أو أغاني العري، وبين شاب يجلس في " غرزة " يدخن المخدرات، فكلاهما ضحية، وكلاهما سواء، فمن منا سيدفع الثمن، ومن الذي يحب أن يقف أمام القانون لتتم محاسبته.
نحن شهود على هذا العصر، فهل نحلم بأن يصبح للفن دور في رقي هذه الأمة؟....
Advertisements
الجريدة الرسمية