رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

العندليب وحكاية نصب


عند التأمل في رمزية مصر وحبها يتجسد سؤال، قد يكون محرما؛ لأنه يمس أحد الثوابت والمقدسات عند أغلبية المصريين، والسؤال هو هل بالأغاني يتم البناء؟

نعم، في التراث الشعبي العمالي والفلاحي، كانت أغنية "الشغيلة والفواعلية"، وقودا لزيادة النشاط والهمة وقت العمل؛ لإتمامه على أكمل وجه.

ومع تطور ثقافة العبث بوجدان المصريين وحبهم لحالة "الدندنة" التي تشعل حماسهم، تبدل الحال من الحماس والعمل إلى مجرد أغاني في ادعاء محبة الوطن، وعمل جيل من الفنانين والمطربين على ذلك، وبكل تأكيد هذا ليس اتهاما أو محاكمة بل فعلوها دون وعي، لكن عبد الحليم حافظ يتحمل نصيب الأسد من هذا العك العاطفي والوطني وغيبوبة الوعي الشعبي الغارق في عالم السهد والتنهيد وحب الوطن، و(كلنا كدة عايزين صورة)، دون عمل على رسم الصورة الحقيقية لقضايا مصر وتنميتها بتعريتها والشقاء من أجل إصلاحها.

العندليب وحكاية النصب على الشعب تمت بحماس شديد كحب الدبة التي قتلت صاحبها، حب عويل يبقى المواطن محجوزا في خانة الأماني والأحلام العظيمة دون تحقيقها، ولم لا؟.. فها هي مصر سعيدة ومنتصرة ومتحضرة وجميلة ونظيفة في كلمات أغنية ولحن راقص.. وفي الواقع ثمة انهيارات أخلاقية ووطنية، وهتك أعراض وأراضٍ.. لم تفلح أغاني العندليب في تهذيب العشاق والوطنيين، فالكل اغتصب ما ليس له حق فيه.. مع أن العندليب في كل أغانيه العاطفية إنسان مثالي، لكنه غير فعال ولا واقعي. 

نُقل هذا المرض لأجيال مصرية قبعت في ظل المحبوب الغادر إعمالا بـ "مش نصيبي لكن حبيبي"، وهكذا على مستوى الوطن، فمن يستحق لقب "فدائي" من نخبة مصر المتلوثة.. الذين نالوا كل الشهرة وأخذوا مصر بكل خيراتها ونفوذها وجمالها؟!

الصورة التي كان يغني العندليب لها باسم الجمع، أصبحت ومنذ عصره للأسف باسم الأنا الفردية، مجموعة واحدة هي المتحكمة والمتسيدة، وهي دائما المتربعة، ولا يوجد غيرها في الصورة!

العندليب بشكل أو بآخر كان إنسانا عاشقا ووطنيا لكنه أناني، لا يحب أن يكون غيره في الصورة.. كذب وصدق نفسه، فروج سلعة بائرة للمصريين، فأدمنوا الأغاني دون العمل الحقيقي، فقط الاستكانة في انتظار حادثة قدرية قد تغير الأحوال أو بمعنى أدق، الانتظار في الظل إلى أن يأتي الآخر الطيب بالحل السحري لهمومنا العاطفية أو الوطنية.. ربما كانت هي روح العصر(؟!).

لمع عبد الحليم في زمن الشعارات البراقة.. مع أنها كانت ثورة عظيمة، فعلها الجيش المصري والتف حوله جموع المصريين، لكن المعيب هنا أن ناصر كان يؤمن إيمانا مطلقا بفكرة الضابط الذي يفهم في كل شيء، وبهذه العقلية تم إسناد كل مؤسسات الدولة ليقودها الضابط، وانتقل الحماس العسكري من بيئة المعسكر إلى بيئة أخرى غريبة عليه لا تؤمن بنفس الأفكار ولا بسياسة تنفيذ الأوامر.. وأصبح الكل ضابطا؛ طمعا في رعاية الضابط والزعيم الكبير. 

وفي أزمات الزعيم الكثيرة عبر مسيرة الوطن المصري (وحتى الآن) التي تسبب فيها الزعيم نفسه، ومن حوله، ومن انتسب إلى هيئة الضباط زورا.. مطبلا أو راقصا.. سمسارا، أو مديرا أو مرؤوسا.. ومؤخرا إعلاميا.

الجميع عبر هذه المسيرة (وحتى الآن) صدّر لمصر حماس الأغنية دون أن يصدر لها حماس العمل الحقيقي في الإخلاص بالقيم المطلقة للإنسانية والعدالة والحرية.. الجميع استورد لمصر ثقافة غير ثقافتها الفرعونية العاشقة للحياة والجمال والعمل بإتقان.. الجميع أهان حماس العمل في الأغنية وأبقى على حماس الأغنية دون العمل!

الأغنية الرائجة الآن يا عندليب مصر، باتت فاترة تقود المصريين لتدميرهم الذاتي، وأصبح التطور الطبيعي لمعاني أغانيك العاطفية والوطنية في نهج الحث على العمل من نوعية "تلصق وعُك وربك يفك"، وفقا للمثل الشعبي الشهير "من برا هلا هلا ومن جوا يعلم الله"!
Advertisements
الجريدة الرسمية