رئيس التحرير
عصام كامل

لا تثريب عليكم اليوم


ما ذنب شعب سمع وشاهد على الهواء أناسًا داخل القصر الجمهوري المصري يتآمرون عليه وعلى بلاده، وأمام رئيس الدولة المصرية، في محاولة بائسة طائشة لمعالجة أزمة بناء سد النهضة؟! فخرج أحدهم مقترحًا أن تضرب قواتنا المسلحة هذا السد!


وخرج آخر مقترحًا أن نبث الرعب في قلوب أشقائنا في إثيوبيا الذين يعانون من الفقر والجهل والمرض والظلام في قرى بأكملها، وكأن الضعيف الموت أفضل له! وكل هذا في حضور الرئيس المعزول محمد مرسي، وغاب عن كل هؤلاء أن جيش مصر طيلة عمره لم يعتد على أي دولة، ولم يرهب حكامًا، ولا نساءً، ولا أطفالًا، ولا شيوخًا حتى في ظل حربه على الإرهاب في سيناء.

ورغم الظلم البين الذي وقع علينا بإقامة هذا السد، والجرأة في تحويل مجرى النيل الأزرق، في الوقت الذي كنا نعيش فيه فوضى خلاقة بعد ثورة يناير 2011، ورغم ما جاءنا من السودان، في الوقت الذي كنا ننتظر فيه وقوف كل الأشقاء في القارة، ورغم تجميد عضوية مصر لفترة ليست قصيرة في عمر الدول التي تعاني آلام النفاس بعد ولادة ثورتين على أراضيها، فإن كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي طوت هذه الصفحات، وحوت جملًا محورية تعد ركيزة العمل في الفترة المقبلة مع أشقائنا في القارة، ورسمت خريطة مصر المستقبلية، والمتمثلة في: ( التنمية وبزوغ فجر جديد – الخطوة الأولى التي نخطوها اليوم – المصالح المشتركة – الحوار المتواصل والمثمر – طريق الأمل – مستقبل يلبي احتياجاتنا معًا – لا بديل عن تفهم كل طرف لدوافع ومنطلقات الآخر...إلخ).

وهذه الجمل المحورية عكست أن الرئيس السيسي امتلك شفرة وكود الخلاف الذي كان متجذرًا لسنين تجاوزت الثلاثين عامًا، وهي أن ننظر إلى المشكلة بعيون أهلها، ولذا فقد امتلك وجدان المواطن الإثيوبي بقوله له: (لقد كان هذا المشروع مصدر تطلعات شعوب دولنا الثلاثة على مدى السنوات الماضية، فبالنسبة للملايين من مواطني إثيوبيا يمثل سد النهضة باعثًا على التنمية من خلال إنتاج الطاقة النظيفة والمستدامة).

وفي نفس الوقت خاطب أيضًا قلب الشعب الإثيوبي فقال له عن موقف المصريين تجاه سد النهضة: (بينما يمثل لأشقائهم على ضفاف ذات النيل في مصر، والذين يساوونهم في العدد تقريبًا، يمثل هاجسًا ومبعث قلق؛ لأن النيل هو مصدرهم الوحيد للمياه، بل للحياة). 

ولم يكتف بمخاطبة قلب الشعب الإثيوبي، بل خاطب عقله؛ ليضعه أمام مسئوليته، فقال مستخدمًا المعلومة التي لا شك فيها: (استخدامات مصر من مياه نهر النيل تقدر بخمسة وخمسين مليار متر مكعب من المياه سنويًا في إقليم يتميز بالجفاف الشديد ولا تتساقط عليه الأمطار، وهى ذات الاستخدامات التي استمرت مصر في الاعتماد عليها على مدى عقود طويلة، رغم تضاعف عدد سكانها وتزايد احتياجاتها التنموية، في الوقت الذي يبلغ فيه متوسط هطول الأمطار على باقي دول حوض نهر النيل نحو 1660 مليار متر مكعب سنويًا).

وهنا أتى دور مصر في عرض طلباتها بما لا يمكن الاعتراض عليها فقال الرئيس: (القيمة الحقيقية لوقوفنا هنا جنبًا إلى جنب، لا تكمن في وصولنا إلى هذه النقطة فحسب، وإنما في المضي قدمًا على ذلك الطريق الذي اخترنا أن نسلكه سويًا، وفى اتخاذ الإجراءات التي تكفل استكمال العمل بنفس روح التفاهم، حتى ننتهى بنجاح وفى أسرع وقت ممكن من مسار الدراسات الفنية المشتركة القائم، والبناء على نتائجها للتوصل إلى اتفاق حول قواعد ملء خزان سد النهضة وتشغيله، وفق أسلوب يضمن تحقيق المنفعة الاقتصادية لإثيوبيا … دون الإضرار بالمصالح والاستخدامات المائية لكل من مصر والسودان).

وكما أهين الشعب الإثيوبي داخل القصر الجمهوري، حق له أن نواسيه، ويذهب إليه رئيسنا؛ ليداوي جرح قلوب أبناء جلدتنا هناك، ومن ثم فقد قال السيسي في كلمته المرتجلة: (إحنا جايين بكل الحب، بكل الإخلاص، بكل الأمانة، ونوايانا كلها طيبة جدًا جدًا). 

ثم أعلن السيسي أن الخلاف بين الأشقاء لن يجدي ولن ينفع مهما طال الشقاق، ولذا فإن مصر تغاضت عما بدر من أشقائنا - طالما أن الأمر لم يصل إلى سفك الدماء - وعمد إلى طي صفحات الماضي البغيض بكل ما يحمله، واخترنا أن نفتح صفحة جديدة، ولذا قال الرئيس: (إحنا ممكن نتعاون ونعمل حاجات عظيمة جدًا جدًا، وممكن نختلف ونقعد نأذي في بعض سنين طويلة جدًا جدًا، إحنا اخترنا التعاون والبناء والتنمية، إحنا ممكن نتشكك في بعضنا البعض، ونتحسب من بعضنا البعض، ومانتحركش من مكاننا قيد أنملة، إحنا اخترنا أن نثق في بعض ونطمئن لبعض ونشجع بعضنا البعض على التعاون والبناء والتنمية).

وهنا رصدت الكاميرا ابتسامات الرئيس السوداني عمر البشير الممتدة، التي تعبر عن الفرح والسعادة بنوايا مصر الصادقة، ثم اختتم السيسي كلمته بأن جعل الله شاهدًا عليه وعليهما فقال: (إلى الشعب المصري والشعب السوداني، والشعب الإثيوبي، لما هنتعاون، ربنا سبحانه وتعالى اللي إحنا كلنا بنؤمن بيه؛ هيساعدنا وكل بلادنا هتبقى في خير)، وبذلك فقد أغلق الرئيس السيسي هذه الصفحات، وسطر صفحات جديدة بيضاء، تشهد على العلاقات الأخوية وحق الجار ومنافع أبناء القارة السمراء.. هذه مصر الكبيرة... تحيا مصر.
الجريدة الرسمية