رئيس التحرير
عصام كامل

«تفجير الحفار».. علاقة فؤاد المهندس بتنفيذ العملية المستحيلة.. تولى مهمة تدريب «نسيم الهجان» ولعب دورًا مهمًا في حماية «السراج».. كان نسيم رجل المهام الصعبة ونجح في زرع ا


سجل اسمه بأحرف من نور في قائمة رجال المخابرات المصرية في القرن الـ20، واضعًا نفسه بين الكبار الذين أربكوا حسابات إسرائيل، وجعلوها «تعمل لهم ألف حساب».. إنه اللواء «محمد نسيم» رجل المخابرات المصري الذي عمل ضابطا بالمخابرات المصرية، لكونه واحدا من ضباط الجيش المنضمين لتنظيم الضباط الأحرار، وممن شاركوا ضمن الصف الثانى من رجال الثورة، وعندما تولى اللواء صلاح نصر رئاسة جهاز المخابرات العامة المصرية، كان محمد أحد مديرى العمليات بالجهاز ورجل المهام الصعبة.


صعد نجمه مع تخصصه بجهاز الخدمات السرية في المخابرات، الذي تولى زراعة الجواسيس في صفوف العدو لاختراق أجهزتهم الأمنية، وكانت أغلب عملياته تنتهى بالنصر دون أن ينكشف أمره للموساد الإسرائيلي، ولعل أشهر عملياته كانت إعادة تقييم وتدريب جاسوس المخابرات العامة المصرية الشهير رفعت الجمال.

بتكليف شخصى من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، تولى «نسيم» عددا من العمليات التي نفذها خلال فترة خدمته، كان أبرزها عملية الحفار التي خلالها تم تفجير حفار البترول «كنتينج»، الذي اشترته إسرائيل للتنقيب به عن البترول في خليج السويس، كما كان صاحب الفضل في إخراج الضابط السورى عبد الحميد السراج من سجنه بسوريا وغيرها من العمليات.

في حى «المغربلين» بالدرب الأحمر بالقاهرة ولد «محمد نسيم»، حرمه القدر من قضاء مزيد من السنوات مع والدته، فتوفيت قبل بلوغه ثلاثة أعوام، ثم انتقل مع عائلته إلى حى المنيرة بعد ذلك بأعوام، والتحق بالكلية الحربية عام 1949 وتخرج فيها عام 1951، وكان بطل «الحربية» في الملاكمة إلا أنه اعتزلها بعد تخرجه وأتاحت له ممارسته للرياضة الزواج بإحدى بطلات العالم في لعبة الجمباز.

التحق بسلاح المدرعات عقب تخرجه في الكلية الحربية، وشارك في الدفاع عن مصر ضد العدوان الثلاثى عام 1956، بعدها تم اختياره للانضمام لجهاز المخابرات المصرى الذي كان في بداية نشأته حينها.

عزمت إسرائيل التنقيب عن البترول في سيناء باستخدام الحفار «كنتينج»، الذي كان يعتبر حينها الأكبر من نوعه بالعالم، في محاولة منها لإجبار المصريين على اتباع أمر من اثنين (الأول) قبول استيلاء إسرائيل على البترول المصرى بالقوة ومشاهدتها في صمت، و(الثاني) رفض سطوها على الموارد المصرية وتوجيه هجوم للحقول التي يستغلها العدو فتتخذ إسرائيل ذلك الهجوم حجة لها لمهاجمة حقل «مرجان» وهو حقل البترول الوحيد الذي كان حينها تحت سيطرة الجيش المصرى ومصدر إمداده الوحيد بالبترول.

لم تنتظر المخابرات المصرية كثيرًا، وكثفت عملية جمع كل المعلومات اللازمة عن الحفار، وخططت لتفجيره بتلغيمه، عبر وضع لغم على كل رأس من رءوسه الثلاثة، ورابع تحت البريمة بمساعدة رجال الضفادع البشرية المصرية.
هنا لعب نسيم دورًا بارزًا في اختيار أدوات تنفيذ المهمة من ألغام ومواد متفجرة، بالإضافة إلى مسئوليته عن تدريب أفراد البحرية والضفادع البشرية والمخابرات وإخبارهم بالأسماء الجديدة التي تم اختيارها لهم لتنفيذ المهمة، وتسليمهم هويات سفرهم المزيفة بصفات متعددة كمعلم أو مستشار بالخارجية أو مصور سينمائى وغيرها.

«خطة نسيم» تمثلت في اصطحاب الأفراد السابق الإشارة إليهم أربعة ألغام وستة مفجرات معهم بجانب بعض المعدات وملابس الغوص من القاهرة إلى العاصمة السنغالية «داكار»، والتي سبقهم إليها نسيم للقائهم هناك لكنهم اكتشفوا نقل الحفار من داكار فور وصولهم هناك وهو ما كان بمثابة صدمة بالغة لهم.

عثرت المخابرات المصرية على الحفار في مدينة أبيدجان بساحل العاج، وعلم «نسيم» من مصادر خاصة أن الحفار سيغادر المدينة صباح اليوم التالي، واقترح تنفيذ المهمة في ذات اليوم استغلالا لانشغال الأجهزة الأمنية كلها بمراسم احتفال وتأمين رائد الفضاء الأمريكى آلان شبرد، الذي كان يزور أبيدجان في ذات اليوم.

تسلل أفراد المخابرات المكلفين بأداء المهمة في الفجر، تحت إشراف نسيم إلى موقع الحفار، ووضعوا كل المتفجرات بأماكنها خلال ساعة واحدة، وعند السابعة صباحًا تم تفجيرها، فيما أشرف محمد نسيم على ترحيلهم بعد إتمام المهمة خارج ساحل العاج.
وبعد الانتهاء من تنفيذ المهمة أرسل نسيم برقية إلى الرئيس جمال عبد الناصر كتب فيها «مبروك الحج» فرد عبد الناصر قائلا: «أحييك على الشجاعة.. تلك الشجاعة العاقلة»، وكان فريق التنفيذ قد سافر ضمن طاقم فيلم «عماشة في الأدغال» لمحمد رضا وفؤاد المهندس وصفاء أبو السعود.

ولا ينسى التاريخ الاستخباراتى أن تأهيل رجل المخابرات المصرى «رفعت الجمال» أو الذي عُرف بـ«رأفت الهجان» من أبرز مهام الضابط المصرى محمد نسيم، فكانت مهمته السيطرة على «الجمال»، وضمان تنفيذه لأوامر المخابرات بدلا من اللواء عبد المحسن فائق والذي كان يتولى مسئولية الإشراف على الهجان منذ زرعه بإسرائيل منذ منتصف الخمسينيات وحتى بداية الستينيات.
صرامة شخصية «نسيم» وقوتها وذكاؤه، دفعت المخابرات لاختياره لتولى مهمة تدريب «الهجان»، واستطاع بالفعل إقناع الجاسوس المصرى بالتقدم الذي أحرزه المصريون على الإسرائيليين في المواجهات المباشرة بينهما، فتمكن من رفع مستوى الهجان إلى «ضابط حالة»، وهو المستوى الأعلى لأى عميل مدنى في نظم المخابرات.

خلال تدريب «الهجان»، اضطر «نسيم» إلى دخول إسرائيل على أنه مواطن إيراني من أجل طمأنته عبر التحضير لزيارة مفاجئة له، وكان هو المسئول عن تدريبه لإمداد مصر بأكبر قدر من المعلومات السرية التي تمكن رأفت الهجان من تسريبها في تلك الفترة حتى أنه تمكن بتوجيهات مدربه «نسيم» من مصادقة الجنرال موشى ديان وجولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية حينها.
واستمرارا لعملياته الناجحة في عمق الدولة الصهيونية، شارك «نسيم» في التخطيط لعملية الهجوم على ميناء إيلات، وشارك في زرع عميل في إسرائيل، بالإضافة إلى تنفيذ عملية الحصول على معلومات عسكرية حساسة بخصوص صفقة مقاتلات فرنسية للدولة الإسرائيلية بين عامى 1961-1962 من أنواع مستير وسوبر مستير وميراج.

عملية الإفراج عن الضابط السورى عبد الحميد السراج، الذي ذاع صيته بعد إتمام الوحدة المصرية السورية عام 1959، من أبرز المهام التي تولى اللواء نسيم تنفيذها، خصوصًا أنه لعب دورًا بارزًا في إحباط عملية اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في دمشق، وما نتج عنه من تشكيل عداوات كثيرة له أدت إلى اعتقاله بعد ذلك، وعقب هروبه من سجن المزة اكتشف الموساد الإسرائيلى وجود «السراج» بلبنان، فحاول تنفيذ عدة عمليات لاغتياله لكنها جميعا باءت بالفشل، وكان أخطرها وضع قنبلة في أنبوب عادم السيارة التي كان يستقلها وهو ما كشفه اللواء نسيم رغم صعوبة التوقع بذلك، بل واصطحبه بعد ذلك إلى مصر بعيدًا عن محاولات قتله.

بعد عشرات العمليات الناجحة وشهرة واسعة، نالها الفهد الأسمر المصرى اللواء محمد نسيم، سلسلة من النجاحات في المهام الاستخباراتية شديدة السرية لصالح مصر، اعتزل محمد نسيم المخابراتى المصرى العمل السرى في بداية الثمانينيات وتولى وظيفة وكيل وزارة السياحة المصرية، وتوفى عام 2000، وأقيمت له جنازة مهيبة تصدرها كبار رجال الدولة.
الجريدة الرسمية