رئيس التحرير
عصام كامل

هموم وادى وتير


عندما ضاق بنا الوادى نزلنا من السيارة المجهزة لعبور الفيافي الوعرة.. كانت ستائر الليل أضعف من أضواء قمرية بددت كثيرًا من عتمته ورواسي تحيط بنا من كل حدب وصوب.. مضينا مترجلين تشدنا قمة جبلية شاهقة تكاد تلامس النجوم المتلألئة وتلفت انتباهنا قمة لا تزال في المهد صبية تصاحب أخريات وكأنهن في طور النمو.. لا شيء هنا أكبر من الجبال ولا شيء أنقى من الوديان.. أهلا بكم في صحراء نويبع وطابا.


ضجيج البشر تلاشى وحطت هيبة الخالق على الجميع.. فوق تلة صغيرة صعد بعضنا.. في ممر ضيق بين صخور نارية مضى آخرون.. وعلى كثبان رملية لا تزال في مرحلة جنينية بديعة استلقى حالمون.. خفتت صهوة النار الموقدة.. قليل من رماد يغطى وجه الجمر وكأنه الوشم يغلف جبين فاتنة أربعينية تُنبئنا ملامحها بأنها كانت طاقة فائقة تطال كل من يجاورها أو يحاورها.. كنت بين هؤلاء في عشاء بدوى بعد أيام أربعة من العمل الشاق بين أهلنا في شعاب سيناء وقفارها.. أيام أربعة نطالع فيها هموم وديان الصحراء الممتدة.. من وادي مجرح إلى وادي وتير إلى … الكل يعانى!!

جماعة من المتطوعين تجمعهم فكرة مصرية أصيلة منذ قرابة العامين التفوا حول قيمة التواصل مع أهلنا في نويبع وطابا.. صاحب الفكرة زميلنا الصحفي النشط السيد الدمرداش الذي أسس جمعية "سياحة مصر".. أطلق فكرته بين زملاء وأصدقاء ومسئولين.. تحمست وزارة السياحة.. انفعلت وزارة البيئة.. ودار حول الفكرة نخبة من أبناء مصر المخلصين.

وتوالت قوافل التواصل الإنسانى بين طبية وزراعية وبيئية وسياحية تزرع الأمل وتصنع حالة من حالات العناق بين أبناء الوادى وأبناء سيناء.. كانت البدايات مستحيلة، صعبة، معقدة إلى أن أصبحت جسور الثقة هي المعبر الحقيقى بين الأفكار، خاصة أن جيلًا جديدًا من أبناء سيناء الذين حظوا بفرص تعليم أصبحوا جزءًا لا يتجزأ من المشروع.

نمت عصابة السيد الدمرداش وتمددت في القاهرة وأصبحت جزءًا من واقع أهالينا في المساحة المهملة.. زرعوا ٢٠٠٠ شجرة مثمرة.. عالجوا ٨٠٠ حالة مرضية بقوافل طبية.. علموا ٤٠٠ تلميذ فنونًا تشكيلية ونحتا وأورجامى.. أقاموا ٣ مشاغل أصبحت منتجة بمهارات نسائية بديعة.. أقاموا ٣٠ ندوة للتوعية السياحية والبيئية والزراعية.. أجروا ١٨ جراحة قلب مفتوح.. شاركوا بقوافل للطب البيطري.

انتهت المرحلة الأولى من الحلم حيث كان أهم إنجازاتها إذابة جبل الجليد بين كل الأطراف.. أصبح من المألوف أن تجد شبابا وأطفالا ونساءً يشاركون ويقودون ما بدأته عصابة الدمرداش.

في الوقت الذي كان فيه الدمرداش ورفاقه يتصورون أن حلمهم بدا أكثر وضوحًا جرت في النهر مياه جديدة.. عقدت انتخابات داخل الجمعية لتفوز بسمة فؤاد الشابة الدءوبة في الانتخابات برئاسة مجلس الإدارة.

يتقدم جيل بسمة ولا يتراجع جيل الدمرداش وتمضى المسيرة برفقة نخبة من خبراء مصر وأبنائها.. فريق علماء من مركز بحوث الصحراء برئاسة الدكتور عمرو عبد الحميد ومشاركة الدكتور محمد سالم وأحمد إسماعيل زاروا المزارع الصغيرة والكبيرة وعقدوا النية على طرح ما أنتجته عقولهم في معاملهم لأهالينا في الجنوب.

في عرب المحمدى كانت المهندسة منى سمير من وزارة البيئة تزور السيدات بصحبة الدكتور أحمد إسماعيل والأستاذ عبد الحميد السبكى، مدير عام الشئون الاجتماعية بنويبع وإحدى أهم الشخصيات المؤثرة في المجتمع لبدء فكرة إبداعية تقوم على استغلال المساحات المتوفرة أمام منازلهن لزراعتها بالنباتات الطبية وتسويقها.. بدويات ينفعلن بالفكرة ليبدأ التنفيذ خلال شهر.

لم يكن مدهشًا أن تجد مسئولين مهمتهم رقابة أداء الجمعية وهم يحملون على ظهورهم "موكيت" لفرش مسجد أو يشاركون في عشاء بدوى أو يزرعون شجرة أمام منزل بسيط.. هكذا كان الأستاذ أيمن إسماعيل، مدير عام إدارة المؤتمرات بهيئة تنشيط السياحة، وبصحبته الشاب النشط حسين فؤاد.

عاشق الكاميرا الفنان المصور الصحفي عمر أنس يتجول بعدساته ليركع فجأة أمام لحظة إنسانية لعناق بين بشر الوديان وتلالهم وتراه مشدوهًا أمام طفل بدوى تحمل قسمات وجهه بعض ملامح الجبال في صلابته وقوته وعزيمته.. في المساء لا تنام قرية الصيادين التي نقيم فيها رحلات مكوكية، بدو قادمون للتخطيط معنا للغد ومسئولون فتنتهم الفكرة جاءوا مشاركين لا مراقبين.. وها هو سامي سليمان صاحب القرية يخرج من حالة رجل الأعمال إلى حالة المشارك بامتياز.

غصة تسكن الحلق وأنت تتابع كيف سيطر أخطبوط الإهمال الرسمى على الوديان.. على الناس.. على الأغنام.. على الأشجار.. أناس يناضلون تمسكًا بالحياة.. بين مستسلم وغاضب.. بين حالم ويائس.. بين متأمل في الواقع وغارق في الأوهام.. الكل يتأرجح.. في عصر الجشع لم يكن هناك من ينظر داخل الأودية.. في القفار.. فى وجوه الناس.. في ماضيهم.. في مستقبلهم.

صوت الشاب جيفارا الجافي ابن أحد البنائين الأوائل لشرم الشيخ المناضل اللواء محمد الجافى يأتي معلنًا عن برنامجه الانتخابى تحت شعار "مستقبل جيل".. يؤمن جيفارا بأن الجميع ظُلم في الجنوب.. البدو ظُلموا والحضريون أيضًا.. يروي والعهدة عليه أن شبابًا ولدوا في شرم وتربوا فيها وتخرجوا وعملوا، غير أن الدولة لا تزال تعاملهم على أنهم غرباء.. يروى أيضًا والعهدة عليه أن المرأة البدوية إذا أرادت أن تتقدم للحصول على شقة فإن عليها أولا أن تطلق من زوجها.. قصص مثيرة وحكايات أكثر حزنًا وألمًا تلك التي يطرحها جيفارا على مسامعنا.

الدكتور محمد سيد أحمد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الشروق، لا يزال ممسكًا بين أحاديثه الممتدة بمشروع عبدالناصر للاستقلال الوطنى.. ترتفع وتيرة النقاش.. تحتدم.. تصطدم.. تنطلق الأفكار لنتلاقى جميعًا هنا داخل بيت الشعر البدوى وبين حكماء ووجهاء وشباب تجمعهم رؤية واحدة وهدف واحد.. التواصل مع أهالينا مهما كانت صعوبة الأمر.. قوافل تأتي وأخرى تروح ويبقى الهدف ألا تضيعنا ساعات الإهمال من بعضنا البعض مرة أخرى.
الجريدة الرسمية