رئيس التحرير
عصام كامل

شيماء تنزف دما وهم ينزفون خسة وهوانًا


لعل الظروف خدمت الحكومة كثيرا بوفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، قبيل الاحتفال العبثي والمصطنع بثورة يناير المجيدة، التي لا معنى للاحتفال بها سوى بوأدها نهائيا بعدما تم تشويهها يوميا من قبل صبيان رجال أعمال مبارك في قنواتهم الفضائية، كيف لدولة تعمل جاهدة على الإتيان بعكس ونقيض كل ما قامت من أجله الثورة بأن تدعي الاحتفاء أو الاحتفال بها!


فإن كانت الثورة قد قامت من أجل العيش الكريم، فها هو الغلاء النابع من قرارات حكومية واضحة وصريحة في توجهها، يطحن الفقير يوميا ويقضي على ما تبقى من شبه طبقة وسطى في مصر.. ربما ظنت الحكومة أن العيش معناه رغيف الخبز، وهو الشيء الوحيد الذي لم تمسه مع تأكيدنا على إنقاص وزنه من 120 جراما إلى 90 فقط!

واقعيا يشعر كثير من الشعب، حتى من غير الثوار، بأن الدولة تعاقبه على جرأته عليها والثورة ضدها.. فالجميع ما زال يذكر الرد الجاهز عند تقديم أي بلاغ لسرقة أو نصب أو بلطجة وهو (مش عملتوا ثورة، خليها تنفعكم)، وكأن على الشعب أن يعلن توبته ورجوعه إلى أرباب النظام القديم المتجدد حتى يعفو عنه ويعود به إلى زمن القمع الجميل والتعذيب الأجمل!

بصراحة وعلى بلاطة، المؤسسات الحكومية المتحكمة في الدولة بكل رجالها لا يكرهون فقط الثورة التي إن كان قُدر لها النجاح فإنها كانت ستحاكمهم، ولكنهم أيضا يعملون قدر المستطاع على معاقبة الشعب جميعا بسببها حتى يعيش في فوبيا تكرارها ويعمل جاهدا على قتل كل حركة أو حتى فكرة ثورية في مهدها، ولن تكون الرقيقة عصفور الجنة شيماء الصباغ آخر من يقتل؛ لرمزية تذكيره للناس بالثورة!

شيماء الصباغ حاملة الورد التي لا نستحقها جميعا، لم تخرج حاملة معها قنابل أو خرطوش أو حتى شماريخ، بل ورود تشبهها هي وغيرها من زهور مصر البريئة التي قتلها الأنذال في 28 يناير وما بعده، تلك الوديعة في زمن القسوة والعنف، كانت تسير في نهاية مشوار عمرها القصير لتذكر الناس والغافلين والمغيبين بأن يوما ما خرج النبلاء والأنقياء للمطالبة لغيرهم قبل أنفسهم بالعيش الكريم والكرامة الإنسانية والحرية لوطن مكبل بقيود من فساد ولكن.. تم قتلها والجميع، وإن لم ير القاتل يعلمه.. فهو إما يكابر نفاقا مع نفسه والتفافا على الحق والعدل حتى يحابي نفسه التي تعودت على التعامي عن الحق وتبرير الباطل قبل محاباة من وثق بهم ويسير في ركابهم، فلا يستطيع التراجع عن ذلك حتى أمام نفسه، فما بالك بانتقادهم أمام الآخرين الذين سيشمتون فيه وفي عمى بصيرته!

لذا، فمن قبيل الملل والعبث تكرار الناس أن الدولة تنافق نصا وضعته في الدستور عن ثورة يناير المجيدة، نفاق صريح لأن كل سياستها مناقضة تماما بل هادمة لقيم الثورة، فمن خرج ليثور من أجل العدالة لا يحتفل مع حكومته بقوانين تمييزية تمنع أبناء الطبقات الفقيرة من عمال وفلاحين من التقدم لوظائف النيابة مثلا، ومن خرج مطالبا بالعيش - أي بحقه في خيرات وطنه - لا يخرج ليحتفل برفع الدعم عنه يوميا والتبشير برفعه نهائيا (حتى نقب على وش الدنيا) كما صرح سيادة الرئيس..

هل نحن مجانين لنخرج ونحتفل بذلك، نحتفل بإفقارنا وتقزيمنا والتمييز السلبي ضدنا، ولكن.. الحكومة تصر على أن يناير ذكرى يجب الاحتفال بها؛ استخفافا بعقول من يرضى بذلك.

وجاء مقتل النقية الرقيقة شيماء ليكشف للغافلين أن شيماء وأي شيماء ما كان لها أن تعيش وسط هذا التلوث والعبث والنفاق الصريح، هي لم تخرج للثورة بل فقط لتذكير الغافلين بحقهم، لم تشفع لها الزهور التي كانت تحملها فأبى الفجرة إلا أن توضع على قبرها هي.. ستقول ربما كان الإخوان هم من قتلوها، أقول لك وأين دور الشرطة في نشر الأمن في وسط العاصمة وليس في نجع بعيد في أقصى أطراف مصر، إنه تقصير أمني أو تواطؤ ولا تفسير غير ذلك!

ولكن الذي يعنيني حقا هو أن أتوجه لكل ثائر نبيل قائلا له: وفر دماءك الذكية وضياء عينيك فنحن جميعا لا نستحق بصيرتك أو حياتك، لا تقم بثورة بالنيابة عن شعب يحب العيش في استقرار أشبه بالموت حتى إن كان قوامه الظلم والفساد والتعايش على لقيمات الكفاف، لا يحب الثورة من أجل حقه ويعنف ويخون كل من ثار من أجله هو، لا تثر من أجل من يحمد الله على أقل القليل الذي يتركه له سادته، ويعتبر ذلك تقوى وإيمانا!

لا تثر بالنيابة عمن يحب أن يبقى داخل الحيط وليس بجواره، لا تبذل حياتك من أجل من تركوا شيماء الصباغ تنزف دما ولم يتحرك أحد منهم لإنقاذها أو حملها مع زوجها، كانت تنزف دما وهم ينزفون جبنًا وذلًا وهوانا وخسة وخنوع رضا بالقهر ورعبا من المساءلة.. دعهم فسيأتي يوم يخرجون هم ويطالبون بشيء ضئيل حقير من حقوقهم.. أتدري متى.. عندما يكون الجوع مرادفا للموت فقط.. دعهم وشأنهم فلن تصلحهم ولن ينصلح حالهم ولو بعد حين طالما كان الخبز الحاف فقط متوفر!

fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية