رئيس التحرير
عصام كامل

إسلام "الأي كلام"!


الفجوة بين جماعات السلفية ومجتمعاتها؛ هي نفسها الفجوة بين اجتهادات السلف في أمور الدنيا قبل 1400 عام، وبين ما يمكن أن يحدث لو تمسكنا باجتهاداتهم في أمور الدنيا.. بعد مرور أكثر من 1400 عام.


الدعوة لتقليد السلف هي انسحاب من مجتمعات تخطت فكر السلف بمئات السنين، والإصرار على التمسك بفلسفات "أبي بكر وعمر" (رضي) في تسيير أمور الدنيا الآن، ليست في صالح "أبي بكر وعمر" (رضي) باعتبارهما ـ رضوان الله عليهما؛ ليسا معصومين.. ولا مقدسين في الفكر الإسلامي السليم.

الذي أتى به الدين فهو من عند الله، أما الذي أتى به أشخاص لتفسير مقاصد الدين؛ فهو من أمور الدنيا، في أمور الدنيا.. يجوز الاختلاف، ويجوز تغير الأحكام مع تغير الزمان.

الإمام "الشافعي" عدل فقهه بعد انتقاله من العراق لمصر؛ لأن العرف في العراق، كان مخالفًا لأعراف المصريين، وما كان عليه المجتمع المصري وقتها؛ كان مختلفًا عما كان عليه المجتمع العراقي.. لذلك بدل "الشافعي" اجتهاده، ونقض بعض آرائه الشرعية القديمة.

ليس كل ما اجتهد فيه السلف يمكن سحبه على الدين، باعتبار أنه هو ما أراده الله لعباده.. إليك المثال التالي: حدث أن اختلف "عمر بن الخطاب" مع "أبي بكر" في تفاسير كثير من آيات الأحكام، ورغم أن "أبا بكر" و"عمر".. "سلف"؛ فإن عمر (رضي) رد اجتهاد "أبي بكر" في الخروج لحروب الردة ورفضها في البداية، وشهر عنه قوله: لو لم تكن فتنة لمنعت أبا بكر.

"عثمان بن عفان" (رضي) "سلف" هو الآخر، لكن هذا لم يمنع السيدة "عائشة" من الخلاف معه للحد الذي أسهبت فيه كتب التاريخ، ورُوي أنها طالبت بقتله.. في بداية أحداث ما يسمى بالفتنة الكبرى.

لم يخلُ تاريخ السلف من عواصف فكرية.. بدءًا من مآخذ الصحابة على "عثمان بن عفان" ولايته (رضي) لأقاربه، وإرجاعه "العاص بن وائل" للمدينة بعد وفاة النبي، مرورًا بمناقضة السيدة "عائشة" لـ "ابن عباس" في فقه الزواج، وانتهاء باشتداد "عمر بن الخطاب" على "أبي هريرة"؛ حتى قيل إنه ضربه لكذبه في الحديث النبوي.

التيارات السلفية أصولية، وجميع تيارات الأصولية الدينية "دوجماتيك".

ماذا تعني "دوجماتيك"؟
تعني احتكار الحقيقة، أو الإيمان بالحقيقة الواحدة، أو الحقيقة الإلهية من وجهة نظر واحدة وحيدة.. وجهة نظرهم هم، باعتبارهم هم وحدهم أهل الله.

كعادة الأصوليين؛ لدى السلفية يقين غير مبرر بأنهم هم وحدهم أحباب الله، وأن الحقائق الإلهية تبدأ وتنتهي عندهم؛ لذلك فعندما يدخل الأصوليون أرض السياسة مثلًا، فإنهم لا يدخلون للتفاوض والسجال، وفق ما تحتمه عليهم ملاعب السياسة وأساليبها، إنما يدخلون للسيطرة وفرض الرأي؛ تأكيدًا لاعتقادهم في مصدر آرائهم الإلهي.

الأصولية الدينية دعوة للعودة بدول العصر الحديث إلى ما كانت عليه عصور الديانات الأولى، بصرف النظر عن تغير الظروف، وتبدل الأزمان.

رغبة الأصوليين مثلًا في الاشتغال بالسياسة؛ كانت معضلة من معضلاتهم الملحوظة في العصر الحديث، فالسياسة متغيرة، والدين ثابت، السياسة متلونة بينما لا يقبل الدين التلون أو التغير، السياسة فن تحقيق الممكن والمتاح بينما لا يقبل الأصوليون في الدين بغير إعمال النص، وبعضهم يختلف في التأويل؛ فيتقاتلون على مجرد الاختلاف!

سأل عمر بن الخطاب ابن عباس (رضي) ذات مرة: على ماذا يختلف المسلمون بعدنا.. كتابنا واحد.. ورسولنا واحد؟ قال ابن عباس: سوف يجيء قوم بعدنا، يقرأون القرآن، ولا يدرون فيما نزل، فيئولونه، فيختلفون على تأويله، ثم يقتتلون على ما اختلفوا فيه.

تاريخيًا.. معظم أزمات التاريخ تسببت فيها الاختلافات بين الأصوليين في تأويلات النصوص الدينية، والاختلاف على محددات التأويل في تسيير أمور الدول، لذلك فعندما دخلت السياسة في الدين، قاتل المسلمون بعضهم على الاعتقاد، وقاتل الأصوليون المسيحيين على الهوية.. كما قاتل الأصوليون المسلمين بعضهم على الرأي.

لذلك، فالدعوة لإخراج السياسة من الدين وجيهة.. الدعوات لفصل الدين عن السياسة ليست ضد الدين؛ إنما هي تحرير للدين من منغصات السياسة.

دوجماتيكية "السلفيين" في السياسة، هي نفسها "الدوجما" الاجتماعية.. وهي السبب مثلًا في موقفهم غير المحدد من الأقباط، أو اعتبارهم صفًا ثانيًا أحيانًا كثيرة في بلادهم، رغم أنهم مواطنون.

فالأقباط في نظر الأصوليين المسلمين مخالفون لمبادئ العقيدة الأفضل لديهم، والمعنى أن حقوقهم سوف تكون منقوصة، حتى مع الدعوة لقبولهم في المجتمع، ورغم كل ما يدعو إليه مشايخ السلف من حريات لغير المسلمين.

مجرد إشارة مشايخ السلفية إلى قبولهم "غير المسلمين"، تعني أن هناك واقعين اجتماعيين لدى هؤلاء المشايخ.. الواقع الأول هو المسلمون، والواقع الثاني هو غير المسلمين. 

المعنى تفرقة، رغم ما يبديه مشايخ السلفية من تسامح ومهما يسهبون فيه من "براح الإسلام".

أي كلام.
Twitter:@wtoughan
wtoughan@hotmail.com
الجريدة الرسمية