رئيس التحرير
عصام كامل

فرطنا من قبل في الحضارة واليوم في المدنية


نحن نعيش زمن تكثر فيه الظواهر الاجتماعية الرديئة والمنحطة فالواضح أنه عندما طغت المدنية civilization على الحضارة culture مع اعتبار أن الحضارة المصرية هي أول الحضارات في العالم، حيث جنبت المدنية الحضارة جانبا ( بمعنى أنها فقدت أكثر القيم وعلى وجه الخصوص قيمة الأخلاق )، والأخلاق هي السمة الرئيسية لمفهوم الحضارة، ولذلك عندما اختفت هذه القيمة اغتربت الحضارة أو الثقافة وكان للمدنية فعلها وبريقها، وتمشينا معها حيث طغت بكل جوانبها على حياتنا اليومية لما يصحبها من تكنولوجيا في كل أوجه الحياة، فكان لزاما علينا أن نرقى بتراثنا وثقافتنا إلى الأفضل، إلا أن ما يحدث لنا هو العكس، نحن نتجه إلى الدرك الأسفل حيث العادات والتقاليد البالية والظواهر المتخلفة إلى الحد الذي عادت فيه الأمية وشاعت بين الأجيال بمعدل لا يبشر بالخير.


في مقال سابق كنا قد تحدثنا عن الفيلق المرعب الذي نما وتكاثر في العشر سنوات الأخيرة وأصبح ظاهرة اجتماعية خطيرة، فيلق العربات الكارو ( الباعة المتجولين وباعة الروبابيكيا ) المزودة بمكبرات الصوت والتي لم تترك أي مكان في أحياء القاهرة الكبرى بلا استثناء، ومع أننا قد لفتنا نظر المسئولين إلى تنامي هذه الظاهرة وخطورتها مستقبلا على البلاد، إلا أنه مع الأسف لم ينظر إليها أحد بنظرة ثاقبة من جهة الدولة، واليوم نحن نتحدث عن ظاهرة لا تقل عن سابقتها خطورة وتدنيا وانحطاط الشكل الحضاري الذي فقدناه منذ زمن بعيد في كل شيء من الشكليات إلى السلوكيات والأخلاقيات، كما نعمل أيضا على فقدان شكل المدنية، فأين المسئولون من ظاهرة (التوك توك) ؟
هل أصبحت مصر الحضارة بنجلاديش أو الهند ؟ هل أصبح شبابنا العاطل بالوراثة لا مجال له سوى التوك توك والميكروباص وبناءً عليه أصبح عليه التخلص تماما من القيم والمبادئ السامية والتمسك بكل ما هو غث وقبيح ؟

علينا أن ننتبه وندقق النظر جيدا، فلغة الشباب اختلفت تماما وأصبحت التربية في المنازل والمدارس والجامعات لا دور لها... حيث حلت الطبيعة محل التربية ودورها في بناء أبناء متمسكين بالعقيدة والقيم والأخلاق، وأصبحنا نعيش حياة الغاب، فلو دققت النظر والسمع وأنت في طريقك في الشارع متوجها إلى أي مكان لسمعت وشاهدت صبية وشبابا من الجنسين ورجالا وحتى نساء، يتفوهون بألفاظ تأبى الآذان أن تسمعها وتخجل العيون من مشاهدة أصحابها، فماذا بعد أن فقد أبناؤنا العقيدة واللغة ومحاسن الأخلاق ونحن أمة محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم ) صاحب جمال الخلق ومحاسن الأخلاق والمتمم لها.

وماذا بعد ؟ ماذا ننتظر من وراء هذه الظواهر الخطيرة التي تفقدنا هويتنا ونحن واقفون أمامها عاجزين وغير مبالين؟ لماذا لا نحاربها مثلما نحارب تجار المخدرات والسلاح واللحوم الفاسدة..؟ لماذا نترك الطريق مفتوحا أمام تجار اللحم الأبيض البشري؟ أليس هؤلاء أبناءنا وبناتنا وأعراضنا ؟ هل الأسباب التي أدت إلى شيوع هذه الظواهر اقتصادية أو لزيادة نسبة الفقراء واختفاء وغياب أي مفهوم أو خطط للتنمية البشرية وتنمية الموارد المادية بشكل مثمر وفعال يعود على الوطن والمواطن معا بالنفع والرقي في ظل مشاريع قومية فعالة وبناءة والبعد عن أنصاف الحلول التي قد تدر بعض النفع القليل على فئة من المواطنين مثل باعة الأرصفة وسائقي التوك توك ومن يشبههم وذلك في ظل عجز الدولة عن استغلالهم بشكل أكثر إيجابية، ما يؤدي إلى ترسيخ ثقافة الشارع وبالتالي ثقافة الغاب. أم هو عدم التمسك بالدين أم التخلص من القيم والمبادئ المؤدى إلى الطريق المستقيم.

كل هذه التساؤلات يجب أن نجد لها إجابات مناسبة وبالتالي حلولا فعالة، ويجب أن تكون محط أنظار المسئولين القائمين على التربية والتعليم، علينا أن نتصدى وبقوة لمؤلفي الكتب الرخيصة التي تزيد ( الطين بلة )، علينا أن نقف أمام مؤلفي ومنتجي الأفلام الرخيصة والمسلسلات الهابطة والأغاني المدمرة للأخلاق.

علينا أن نبحث جديا في ظاهرة التسرب من التعليم الأساسي ومحاولة القضاء على الأمية حتى لو أدى بنا أن نبدأ من جديد بوضع خطط ومناهج مدروسة على أيدي متخصصين تربويين وعلماء نفس ( الجانب المجهول تماما في الدولة والذي لم يعمل له أي حساب ) ونحن نعلم تماما أن في الدول العظمى والمتقدمة يُعمل حساب كبير لهؤلاء المتخصصين في علم النفس، فلا يوجد إنسان على وجه البسيطة خال من العقد النفسية، ولا يوجد إنسان في هذا العالم لا يحلم، فالأحلام هي التي تحافظ على سلامة الإنسان من الجنون عندما يخرج كل أو بعض ما في اللاشعور!

علينا أن ننظر بجدية للمناهج الدراسية للمرحلة الأولى التعليمية وكذلك للتعليم الجامعي، محل الدراسة لوضع مناهج تتماشى مع عقيدتنا ولغتنا وقيمنا ومبادئنا ومع التكنولوجيا العالمية العصرية حتى لا نتخلف عن ركب العلم كما هو الحال في عالمنا الثالث الذي يتخلى بكل سهولة وبساطة عن أبنائه الموهوبين في كل المجالات البحثية والعلمية لتتبناه دول أخرى متقدمة تيسر لهم كل الصعوبات والمعوقات المادية والمعنوية لتصنع منهم العلماء الذين عجزت أوطانهم عن صنع هؤلاء !

العودة للمناهج الصحيحة والتربية القومية والدين الحق والتاريخ، هي الوسائل التي يمكن بها محاربة الجهل والقضاء على الأمية وتخريج أجيال مشبعة بالعلم والثقافة وليست سطحية من كثرة التفريغ الحادث في مؤسساتنا العلمية منذ عشرات السنين حتى فقد التعليم فحواه والغرض منه، ما أدى إلى زيادة الظواهر الاجتماعية البذيئة وتعاقبت أجيال من الشباب الخليع غير المسئول وغير المبالي والفاقد للوعي.
Dr_hamdy@hotmail.com





الجريدة الرسمية