رئيس التحرير
عصام كامل

الجوع والفقر.. صناعة أمريكية!


لماذا تمد الولايات المتحدة الأمريكية حكومات العالم الثالث بالمساعدات المالية والعينية؟! هل كما تدعي لرفع المستوى المعيشي لشعوب هذه البلدان؟! أم لجعل هذه الشعوب تعرف معنى الجوع حتى الموت؟


يؤكد صانعو سياسة الموت في أمريكا، على أنهم ينفذون برامج إصلاحات الاتجاهات الجديدة التي أقرها الكونجرس، وذلك لأن الغرض الأساسي لبرامج مساعدات التنمية الأمريكية "هو إشباع الحاجات الأساسية للفقراء في الدول المتدنية"، وحيث إن أغلب فقراء العالم الذين يعانون من سوء التغذية، البالغ عددهم البليونين من البشر يعيشون في مناطق ريفية، لذلك فالمعونة توجه إلى الزراعة والتنمية الريفية؛ لأنهم يزعمون أن المعونة تفيد الفقراء مباشرة وتساهم في الاكتفاء الذاتي، وذلك من أجل تشجيع ديمقراطية أكثر وقمع أقل!

والحقيقة عكس ذلك تماما، فهم بدلا من أن يبنوا مشاريع لهؤلاء الفقراء تدر عليهم ربحا مستمرا يستطيعون من ورائه رفع مستوى معيشتهم وعدم الاعتماد على الغير، فإنهم يمدونهم بالمساعدات الوقتية حتى يظلوا في حاجة دائمة لهم والاعتماد عليهم.

وهناك أبحاث عديدة أجريت لمعرفة السبب الجذري للجوع قام بها "معهد الغذاء وسياسة التنمية"، تقودنا هذه الأبحاث مباشرة إلى استنتاج مؤداه أن الانفجار السكاني ليس هو سبب الجوع أو جوع الريف على وجهة الخصوص وفقره، ولا هي ندرة الموارد الزراعية أو الافتقار إلى التكنولوجيا الحديثة، بل إن السبب الرئيسي للجوع هو زيادة تركيز السيطرة على موارد إنتاج الطعام في يد قبضة حفنة قليلة من الناس، مجموعات التنمية المتميزة التي تستحوذ على مقدرات إنتاج موارد الطعام من أجل مصالحها الخاصة.

وقد أكدت الأبحاث الميدانية وغيرها من الدراسات، على إدراك أن المساعدات الخارجية الأمريكية تفشل في مساعدة الفقراء؛ لأنها تقوم بالضرورة على مغالطة أساسية وهي:

أن المعونة ممكن أن تصل إلى الفقراء من خلال الأغنياء، فالمساعدة الخارجية الرسمية تندفق أساسا من خلال الحكومات المتلقية، وهذه الحكومات التي تحددها الولايات المتحدة الأمريكية تمثل المصالح الاقتصادية الضيقة للتنمية فيها.

وقد تعلمنا أن القضاء على الجوع لا يتطلب موارد مادية إضافية، فتدفق الموارد الخارجية في أيدي القلة في هذه البلدان، إنما يدعو مجموعات التنمية العالمية والمحلية لأن تقبض على موارد الإنتاج مما يخلق الفقر والجوع، وبذلك فإننا نخلق ونساهم في إلحاق الضرر بالغالبية المعدمة بدلا من أن نساعدها.

ويزعم صانعو سياسات المعونة، أنهم يركزون الآن على أشد البلدان فقرا، وعلى تلك الحكومات التي تبدي التزاما تجاه الفقراء، ولكن البحث يظهر عكس ذلك، حيث إن القسم الأكبر من المعونات لا يذهب إلى أفقر البلدان، بل إلى بلدان تحكمها أشد نظم الحكم في العالم استبدادا وقمعا، وأمثلة هذه البلدان كثيرة في أفريقيا وآسيا.

إن القائل بأن معظم مشروعات الموت تستهدف الناس الفقراء قولا غير صحيح، فإن معظم هذه المعونات تذهب إلى مشروعات يستفيد منها الميسورون من الناس من ذوي النفوذ السياسي الذين يتحكمون في الأرض ونظم التسويق، وبذلك فإن هذه المشروعات تضر بالغالبية الفقيرة في الريف أو المدن - المعدمين وأشباه المعدمين.

وهذه بعض من الأمثلة في بلدان آسيا؛ حيث إن الآبار الأنبوبية التي حفرت من أجل صالح أفقر الفلاحين في إحدى قرى بنجلاديش، قد استولى عليها أغنى ملاك الأراضي في القرية، ومشروعات الغذاء من أجل العمل في هايتي التي أصبحت بهدف مساعدة الفقراء المعدمين، صارت مصدر ثراء للصفوة القروية، وكهربة الريف التي طرحت كشرط أساسي للعمل في الصناعات الريفية، أدت إلى ضياع فرص العمل أمام آلاف النساء من فقراء الريف في إندونيسيا.

لذلك نقول إن المعونة الأجنبية لم تؤد إلى تحويل السيطرة الاقتصادية غير الديمقراطية التي تمارسها القلة إلى عملية تغيير ديمقراطية تساهمية، بل على العكس فإنها تعزز علاقات القوة القائمة فتزيدها قوة وغطرسة واستبدادا، علاوة على ما هي عليه.

من هنا، غالى البعض عندما أرادوا أن يضعوا تعريفا للفقر والجوع.. فالبعض يقول إن الفقراء قد تخلفوا عن عملية "التنمية"، وهذا التعريف غير صحيح لأنه عبارة عن طبعة أخرى من النظرية القائلة إن المرء يمكن أن يصل إلى الفقراء عن طريق توسيع عملية يتحكم فيها الأغنياء، وهناك آخرون يقولون إن الفقراء لم يتخلفوا عن عملية التنمية ولكنهم جزء منها – كمورد وضحية في آن واحد – فقد قدم الفقراء قوة عملهم، كما قدموا ناتج كدحهم وهذا ما حققه بالفعل الفلاحون والعمال المصريون في زمن الإقطاع والملكية، حيث كانوا في حالة ضعف تام أمام القوة المسيطرة الباطشة، لذلك يصبح هذا التعريف أيضا غير صحيح.. فالقضية ليست في إدماج الفقراء في عملية التنمية بل في وجوب أن يمتلك الفقراء القوة التي يحتاجونها لإدارة عملية التنمية لصالحهم وليس لصالح القوي.

وبذلك يكون تشخيص هيئات العون الرسمية سواء كانت أمريكية أو غير أمريكية، هو أن الفقراء فقراء لأنهم يفتقرون إلى أشياء محددة مثل: الري- القروض – البذور – الطرق الجيدة... إلخ، ونقول أيضا إن ذلك غير صحيح.. فالفقراء يحتاجون فعلا للقوة من أجل تأمين ما يحتاجونه من أدوات تساعدهم على رفع اقتصاد معيشتهم.

فلماذا هذا الإصرار من قبل هيئات المعونة على صحة نظريتهم؟.. إصرارهم على ذلك لا تبرير له غير شيء واحد فقط.. وهو الإصرار على إبقاء الفقير فقيرا محتاجا إلى المعونة غير قادر على الاعتماد على نفسه غير قادر على التغيير، فالكثير من المراقبين سبق لهم أن حطوا من شأن حركات التحرر في المستعمرات الأفريقية والآسيوية وكذلك في المستعمرات البرتغالية في أوائل السبعينيات، كما قللوا من قيمة نضال شعب نيكاراجوا عام 1979، وبالمثل كان المراقبون الأمريكيون من ذوي الدراية، يرون أن معدلا كبيرا للوفيات قد يكون حلا رحيما لمعاناة الكثير من الصينيين في الأربعينيات لأن الصين - في زعمهم – لن تكون قادرة على إطعام نفسها، فمن يستطيع تكرار هذا القول اليوم؟!

لقد نجحت الصين لأنها اعتمدت على التنمية الحقيقية التي تتضمن بالضرورة تغييرات في العلاقات بين البشر، وفي قوتهم على السيطرة على وسائل الإنتاج.

فالتنمية هي عملية اجتماعية فيها يتكاتف الناس معا لبناء مؤسسات اقتصادية وسياسية لخدمة مصالح الأغلبية، وفي ذلك يتجه فريق من الناس لاكتساب المعرفة والتقنيات التي يحتاجونها من أجل تنمية مواردهم، ومن أجل تحرير أنفسهم من الجوع والمرض والجهل.

إنني أقول لكل من يروج لوسائل الإعلام التي تعتبر أن "المساعدات الأمريكية" يمكن أن تحل مشكلة غذاء شعوبنا، ومعضلات تنميتها، عليها أن تعي جيدا أن الحقيقة عكس ذلك تماما.. فكل من يعتقد أن أمريكا هي الصديق المقرب والحارس الأمين على مصالح شعبنا، والمتصدق بجزء من أمواله لإنقاذنا من الجوع والفقر.. أقول لهم جميعا إنهم واهمون.. إن الدور الأمريكي وكل مؤسسات المعونة ومن أهمها صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للتنمية والتعمير، كلها توجه منحها وقروضها إلى أكثر الدول رجعية وشوفينية وديكتاتورية.

إن هذه المساعدات التي تمد بها أمريكا ومؤسساتها هذه الدول، ما هي إلا أداة فعالة من أدوات إحكام تبعية بلداننا للنظام العولمي الجديد الذي حل محل الرأسمالية العالمية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ليجعلها وعاء نهب متزايد من قبل الشركات متعددة الجنسيات وعابرة القارات.

أما الوهم الكبير الذي يعيشه المواطن الأمريكي المغيب تجاه حكوماته المتتالية منذ الخمسينيات وحتى اليوم، بأن الدولارات التي ترسلها حكوماته إلى بلدان العالم الثالث أو المتدني (أي الأقل في التصنيف من العالم الثالث)، بأنه يقوم بدور إنساني عالمي في مواجهة مشكلة الجوع والفقر لهذه الدول، فإن هذا ما تخدعه به حكوماته.
 
Dr-hamdy@h0tmail،com
الجريدة الرسمية