رئيس التحرير
عصام كامل

الشاعر السعيد المصري: جيل التسعينيات نجح في تأسيس تجربة شعرية مغايرة

فيتو

  • الشعر هو الجنس الأدبى الوحيد الذي نجح في رصد موجات الثورة 
  • أنا ابن القرية المصرية بموروثها الشفاهى وحواديتها وأساطيرها 
  • هناك طفرة هائلة لكتاب قصة "لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين" 
  • هناك عودة رائعة لقصيدة الفصحى للمشهد الشعرى 
  • هناك عودة للأشكال التقليدية بروح شعرية جديدة ومختلفة
  • الخلاف حول قصيدة النثر مفتعل والمشهد الثقافى الراهن تجاوزه بمراحل
  • فكرة العمالقة في الواقع الثقافى مرتبطة بحقبة سياسية وفكرية محددة 
  • الناقد الحقيقي يفتقد الحوار مع المبدع.. ويقف كمتفرج في آخر المسرح
  • الغربال الشعري قادر على إبراز الشاعر الأفضل 

يرى أن الإنسان ابن بيئته التي ولد ويعيش ويدفن فيها، مهما تجول في بيئات أخرى، ويعتبر نفسه ابن القرية المصرية بموروثها الشعبى الشفاهى وحواديتها وأساطيرها وعاداتها وتقاليدها الضاربة في عمق التاريخ، فالقرية تمثل له الذاكرة والجسر الذي يربط بين الأحداث والصور والأمكنة والأزمنة والشخصيات، لاستدعاء الماضى وربطه باللحظة الآنية عبر الفضاءات والمساحات، ولأنه يعمل في القاهرة ويعيش في قرية بمحافظة الدقهلية، فهو يعيش في حالة دائمة من السفر والترحال والتعلم والدهشة، يأخذه القطار بوجوهه المتشائمة والمتفائلة لعمال شركة غزل المحلة، ورائحة وذاكرة كراسيه وأرففه، لحالات شعورية ونفسية وذهنية وتعكس حالات وجدانية بسيطة.

إنه الشاعر السعيد المصري، مدير تحرير سلسلة "كتابة" التابعة للهيئة العامة للكتاب الذي يؤكد في حوار لــ"فيتو" أن الناقد الحقيقي يقف كمتفرج في آخر المسرح، ويفتقد الحوار مع المبدعين، مشيرا إلى الغربال الشعري قادر على فرز الشعراء الجيدين.


*كيف ترى تجربتك بين كل هذا الكم من الشعراء؟
أتجول كطفل يحمل في عيونه كاميرا البراءة، في عالم بالغ الرحابة والامتداد والعمق، عالم قد يبدو صغيرًا، ولكنه كبير بدلالاته وثرائه، عالم يتسع للإنسان والكائنات الحية متجاورة؛ فالطفولة منجمُ غنيُ بصوره وأحداثه وحكاياته، وكنز كبير لا ينفتح إلا لحامل مفتاح المخيلة الواسعة، ومسرحٌ بلا حدود يبوح بأسرار البراءة والدهشة، راصدًا التفاصيل وتفاصيل التفاصيل رغبة منى في المعرفة والاكتشاف، بذاكرة وخيال نشط أسعى دومًا لاستعادة الحياة بشكل بصرى، وتأملها والاستمتاع بكل ما فيها، أحيانًا تأخذنى نصوصى الشعرية إلى شعور شديد بالوحدة والغربة والعزلة، تخرجنى من الأمراض الذاتية والاجتماعية، كنوع من التطهير واكتشاف الذات وتحقيق الوعى والمتعة، أحس عند دخولى لحالة كتابة أي نص جديد أن هناك زلزالا قويًا قادمًا، في البداية أحاول أن أطرد هذا الإحساس وأتهرب منه وأتجاهله، حتى لا أقع في شرك الإلهام الزائف، لكن هذا الإحساس يظل يطارنى ويدق على الأبواب ويحاصرني؛ فاضطر إلى الإصغاء والتخلص منه بالكتابة، أما عن تجربتى بين كل هذا الكم من الشعراء؛ فأتركها للنقاد الذين يصنفونى من ضمن جيل شعراء التسعينيات، كما ورد في عدد الهلال الذي صدر في يناير 2014، والذي يحمل عنوان «شعراء العامية.. وقود الثورات وصوت الجماهير»، وما أود أن أقوله إن جيل التسعينيات قد نجح في أن يؤسس لشعرية مغايرة، كما أنه ليس هناك شعرية خاصة بجيل التسعينيات، وإنما هناك شعرية تسعينيات تستوعب أصواتا شعرية من جميع الأجيال.

*النقد في مصر والوطن العربي بحاجة إلى تجديد الدماء.. هل تتفق مع هذا الرأي؟
وسط هذا الزخم الإبداعى اليومى، وآلاف الكتب الإبداعية، يقف النقد والناقد كمتفرج في آخر المسرح، لا يستطيع أن يرى بوضوح وجوه وتفاصيل المشاهد على خشبة المسرح، فهناك حالة من فقدان الحوار والتفاعل الحقيقى بين النقاد وبين المبدعين، وبالرغم من هذا فأنا متفائل جدا؛ فهناك جيل جديد من النقاد الشباب، يتفاعل مع الإبداعات الأدبية الجديدة، ويستطيع أن يرصد بوعى نقدى حقيقى بعض الظواهر التي تشكل المشهد الأدبى في مصر، وأقابل بشكل دائم في المؤتمرات الأدبية الكثير من النقاد والباحثين الجادين الذين تمتلئ بهم أقاليم مصر، لكنهم يعانون من المركزية الشديدة، وسطوة أسماء نقاد الأشكال النقدية الجاهزة، الذين بدءوا في الانسحاب من الساحة، وهم الآن يعيشون على أنقاض الماضى النقدى.

*في الآونة الأخيرة ظهرت أصوات شعرية عدة.. هل ترى أن هذا الكم في صالح الحياة الثقافية المصرية أو لعنة حقيقة تشتت القارئ بين مواهب لم يكتمل نضجها بعد؟
غربل في الغربال الواسع.. اللى اتغربل م الغربال الأوسع.. وأرجع.. غربل في الغربال الضيق.. اللى اتغربل م الغربال الأوسع.. في الغربال الواسع، وانخل.. اللى اتغربل م الغربال الضيق.. والغربال الواسع.. والغربال الأوسع.. في تارة منخل حرير.. فيتولد حفان دقيق، هذا الحفان الدقيق هو ما يبقى من هذا الصخب الشعرى؛ فالمشهد الشعرى قادر دائما على غربلة ذاته، ليبقى ضمن هذا الحفان من الدقيق ما يعجن بدموع البسطاء وملح المهمشين ليكون رغيفا للذاكرة وللذائقة الشعرية.

*باعتبارك بين هذا الكم من الأعمال التي تتقاذف عليك ليلا نهارا بالهيئة هل أنت متفاءل بالجيل الجديد سواء في القصة أو الشعر.. وماهى الأسماء التي جذبتك لتقرأ لها وتتابعها في الفترة الأخيرة من الشباب؟
بطبيعتى شخصية متفائلة جدا ومحبة ومشجعة ودافعة لكل إبداع جديد، كما أؤمن بمقولة بأن كل من يريد أن يكتب إبداعًا حقيقيًا يمكن أن يبقى في ذاكرة الأدب لفترة طويلة، عليه أن يتعب كثيرًا، وأن إتقان أي فن هو جهد لحياة بأكملها، فالفن رؤية خاصة تجاه العالم وقضاياه وليس مجرد تسلية، يتقدم للسلسلة سيل من الإبداعات الشابة التي تبحث عن نافذة للنشر، ولاحظت في الأونة الأخيرة أن هناك طفرة هائلة وتطورًا غير طبيعى في المجموعات القصصية على مستوى الكم والكيف، لكتاب قصة لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين عاما، وأشير إلى أنه الجنس الأدبى الوحيد الذي استطاع أن يرصد بشكل فنى وأمين أحداث وموجات الثورة المصرية، يأتى بعده التدوين إذا ما اعتبرناه جنسا أدييًا، كما أن هناك عودة رائعة لقصيدة الفصحى للمشهد الشعرى بمختلف أشكالها، منطلقة من موروثها الشعرى لكتابة نص جديد ومغاير، أما بالنسبة لشعر العامية المصرية، تتقدم للسلسلة أعداد كبيرة من الدواوين الشعرية على مستوى الكم وليس الكيف، فمعظم الدواوين تحمل أصداء وأكلشيهات واضحة للشعراء الكبار، فمعظمهم ما زالوا في طور التشكيل، والبحث عن خصوصية لتجربتهم، أما عن الرواية وزمن الرواية تعانى السلسلة حاليًا من عدم وجود روايات تستحق النشر، بالرغم من أن السلسلة قدمت الكثير من الروايات منها رواية «موسم الكبك» للكاتب أحمد إبراهيم الشريف، ورواية «العالم على جسدى» ليوسف نبيل وزينب محمد.

*قصيدة النثر ما زالت تواجه حربًا شرسة من النقاد وشعراء التفعيلة.. متي ستهدأ هذه الحرب ؟
حظيت قصيدة النثر منذ نشأتها وحتى الآن بالكثير من الانتقادات الحادة سواء من النقاد أو من الشعراء أنفسهم، ولا زالت تحظى بالهجوم والتأييد من هذا وذاك؛ فالنص النثرى له جذور في تراثنا العربى، عند المتصوفة وإخوان الصفا وغيرهم، فنجده مثلًا في المواقف والمخاطبات عند النفرى، فقصيدة النثر سواء العامية أو الفصحى أعتقد أنها هي التطور الطبيعى للتحرر من كلاسيكية شعر التفعيلة، من النص الذي يحفل بالصور الشعرية والمرافقة والجرس الموسيقى، والزخرفة البلاغية، ووفرة التشبيهات التصويرية، القضايا الكبرى التي تعرقل الدهشة والصدمة بهذا الشعر، فالشعر يجب أن يكون بسيطا وعميقا في آن واحد، وخاليا من الزخرفة، متحررا وأكثر حميمية وأكثر تفسيرًا وتأويلا، وتأكيدًا على الأشياء الصغيرة والأفعال الصغيرة كبديل لهذا العالم الواسع، ولخلق فضاءات جديدة لكتابة نص شعرى مرتبط بالحياة اليومية بتفاصيلها، معتمدًا على إيقاع يرتبط بدقة بظلال المشاعر المراد التعبير عنها، وخلق إيقاع خاص لكل تجربة وغير مزيف ولا يقبل التزييف، وهناك جيل من الشعراء الشباب انحازو لكتابة النص النثرى من البداية، فكتبوا نصوصا هزيلة وساذجة، تكرس لليومى السطحى، والعابر المجانى، وتتلذذ بتدمير المعانى وتسطيح الأفكار وتهميش القضايا، مما أسفر عن نصوص استهلاكية، ومنهم من يمثل أدوارًا ثورية مضحكة، تلك النماذج الرديئة أخذت من تجربة قصيدة النثر أكثر مما أضافت لها، فقصيدة النثر فاضحة ولها قدرة رائعة على كشف الشعراء المزيفين والنقاد المزيفين أيضًا، دون أن تكون لهم تجارب سابقة في كتابة الأشكال التقليدية؛ فلم يمروا من بوابة كتابة تجارب كاملة في الأشكال التقليدية وهضمها والتمرد عليها لكتابة نص نثرى مغاير، وأرى أننى ممن مروا من البوابات والأشكال الشعرية المتعددة لكتابة الأشكال الشعرية ليصلوا في النهاية لباب قصيدة النثر العامية ليقدموا مرحلة مهمة من تجربتهم ومشروعهم الشعرى، والاحظ أن هناك عملية ردة أو عودة لكتابة الأشكال التقليدية، لكن بروح شعرية جديدة ومختلفة، وهم من الجيل الأول لقصيدة النثر العامية منهم: مسعود شومان، ومحمود الحلوانى ويسرى حسان، وأشير إلى أن الخلاف حول قصيدة النثر هو خلاف مفتعل، والمشهد الثقافى الراهن تجاوزه بمراحل.

*من ديوانك الأول وحتى الأخير ماذا حقق السعيد المصري؟
تنقسم تجرتى إلى الآن إلى مرحلتين: المرحلة الأولى تبدأ بديوانى الأول «عيَّل وجميزه عجوزة»، عام 2002م، ثم الوقوف على عتبة قصيدة النثر بديوان «روح برَّة الزنزانة»، عام 2003م، ثم الرجوع مرة أخرى إلى الشكل التفعيلى بشكل ولغة مختلفة ورؤية جديدة بديوانى«وردة في قرطاس سلوفان»، عام 2003م، و«وردة بتنزف ريحة موت»، عام 2008م، والرجوع مرة أخرى لفضاء قصيدة النثر الرحب بديوان «جايز ترتاح.. جايز»، عام 2009م، وفى تجربة الغربة الدائمة في القاهرة كتبت «ناسى حاجة»، عام 2012م، و«زى فرع مقطوع من شجرة»، عام 2014م، وإلى الديوان الأخير «شايف كل حاجة»، عام 2014م، أعتقد أننى قد انتجت محطات هامة من مشروع شعرى يعبر عن ذاتى، وواقعى بصدق وحميمية، لأسجل لحظات ومشاهد يومية ورغبة ملحة للبوح والشجن، كما تنساب قصائدى في كل ديوان في تدفق متوال لتعزف لحنها المتنوع، دون الانحياز لشكل شعرى على حساب الشكل الآخر، أترك للنص الشعري بعد مروره بمرحلتى الاختمار والوهج حرية اختيار الشكل الذي يولد ويعيش فيه، فالشعر كما عبر عنه الشاعر مسعود شومان في أحد دراساته النقدية عن أحد نصوصى «الشعر حديقة وليس شجرة».

*ثمة انفصال بين كبار الشعراء والشباب.. كيف تري هذه الحالة وما تأثيرها فى الجيل الصاعد؟
نحن نفتخر بأننا جيل له آباء وأساتذة من شعراء العامية، وغنى بموروث من الأدب الشعبى والشفاهى، من بيرم التونسى، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودى، وفؤاد قاعود، وأحمد فؤاد نجم، وماجد يوسف، ومجدى نجيب، والأجيال التي تليهم، كل مشروع شعرى له مذاقه وبصمته الواضحة في الوجدان، وإن وجد هذا الانفصال كما تقول، فإن الشاعر يكون مثل نبت ضعيف ليس له جذور.

*هل بالفعل انتهى زمن العمالقة في جميع أنواع الأدب؟
فكرة العمالقة والبطولة الفردية في الواقع الثقافى وفى الفن يمكن أن تكون مرتبطة بمرحلة بعينها وبحقبة سياسية وفكرية محددة، ووفرة الأسماء الكبرى (العمالقة) في جيل أدبى ما ليس دلالة على أن المرحلة بأسرها جيدة الإنتاج الفكرى والأدبى، هذا مع الاعتراف بضرورة التواصل بين الأجيال وعدم انفصال الحاضر عن الماضى، ومن جهة أخرى يمكن لمرحلة أدبية أو فنية أن تتصف بتنوع النموذج المثالى للكاتب أو الأديب (العملاق)، ويكون المنجز الكلى هو العملاق وليس الفرد الذي يحجب صورة الأقصر قامة أو الأدنى موهبة؛ فيصير العملاق هو الجيل أو المجموع وليس الفرد الواحد.
الجريدة الرسمية