رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

كلمتان تشغلان فكر البابا


إن خدمة الوطن الأرضي لا تعطل خدمة الوطن السمائي، ومن ثم فجمع الإنسان بين الصفات اللازمة للأولى وضمها إلى الثانية، تقدم الإنسانية في أعلى صفاتها لكيفية خدمة الله وتتفوق تفوقا بارعا لتكون صورة الله في العالم المادي، وترتفع بمستوى الأحداث إلى هدف أعلى وإلى سلوك وطني مخلص ينفع الوطن.

هكذا قداسة البابا تواضروس الثاني، رمز التنوير والمعرفة والانفتاح على الآخر؛ بهدف تمجيد الله، فمنذ أن اعتلى قداسة البابا تواضروس كرسي الكرازة المرقسية وجدناه يضع أمام عينيه الكنيسة والوطن؛ لأنه أدرك برؤية عميقة أن الكنيسة هي الوطن الصغير وجزء من الوطن الكبير مصر، وإن صحت الكنيسة هي الوطن والعكس صحيح أيضا.

مر عامان ووجدنا إصلاحاته الداخلية للكنيسة وإسهاماته برؤيته الروحية لتماسك الوطن، نظر إلى الكنيسة ورأى أن الإصلاح لا يأتي إلا من التعليم، فأخذ قداسة البابا تواضروس الثاني على عاتقه الاهتمام بالتعليم في الكنيسة بصفة خاصة وبالبحث العلمي بصفة عامة؛ فقد قام بدعوة كل الأكاديميين والأساتذة بالجامعات المصرية في لقاء مفتوح في مطلع عام 2013، وهو يعد أول لقاء يقوم به بابا الكرسي المرقصي لسماع رؤى وأفكار الأكاديميين من أبناء الكنيسة في معظم جامعات مصر.

وتبين من خلال هذا اللقاء، الذي شرفت بحضوره، أن لدى الكنيسة من أبنائها أساتذة جامعيين في جميع التخصصات العلمية، وقد فتح قداسة البابا تواضروس الثاني النقاش واستمع إلى كل من حضر هذا اللقاء من الأساتذة والباحثين، وكان هناك طرح لأفكار ورؤى لتطوير التعليم في الكنيسة.

وكان قداسة البابا يسمع ويحاور بكل اهتمام وحب، بل خرج من اللقاء بتوصيات للاستعانة بكل من يريد المساهمة في خدمة الكنيسة.

فقد كان هذا اللقاء هو اللقاء الأول في تاريخ مصر المعاصر، الذي يدعو فيه البابا الأساتذة والباحثين العلمانيين لسماع رؤيتهم ومشاريعهم الفكرية للكنيسة وللوطن، وذلك يُعد في اعتقادي إرساءً لمشروع إصلاحي للكنيسة المصرية وتجديدًا لها.

وفي يونيو 2013، دُعِي قداسة البابا إلى مؤتمر دولي (بالأنافورة) بوادي النطرون لتطوير المعاهد والكليات الإكليريكية والتعليم بها، تحت عنوان "المعاهد اللاهوتية بين الواقع والمأمول"، برنامج سيمنار المعاهد اللاهوتية الكنسية "تحت رعاية وتشريف قداسة البابا تواضروس الثاني"، وكان من بين المشاركين بأبحاث باحثين من خارج مصر ومن مختلف الكنائس، بالإضافة إلى مشاركة أبناء الكنيسة الأرثوذكسية المصرية على المستوى الخارجي أو الداخلي من الأساقفة والعلمانيين في هذا المؤتمر.

وقد دل هذا اللقاء الأول في تاريخ الكنيسة الأرثوذوكسية في العصر الحديث، على رؤية قداسة البابا تواضروس الثاني التجديدية والعلمية لتطوير التعليم في الكنيسة، بل الانفتاح على مختلف اتجاهات التفكير من جهة صياغة معاهد وكليات لاهوتية متكاملة تساهم في بناء الكنيسة والمجتمع بصورة فاعلة للبناء.

بل كان هدف قداسة البابا تواضروس الثاني أيضًا، التعرف على المعايير العالمية من جهة تكوين المعاهد اللاهوتية لربط الكنيسة بمثيلاتها في أنحاء العالم، من أجل تأثير أكبر واستفادة أعظم.

وأدخل قداسة البابا مناهج من العلوم الإنسانية للتدريس في الكلية الإكليريكية بالأنبا رويس؛ لما يراه في اعتقادي من أهمية هذه العلوم في خدمة اللاهوت وثقافة الطالب الإكليريكي، من أجل خدمة الكنيسة والمجتمع.

واستعان قداسة البابا بالأكاديميين للتدريس في الكلية سواء على مستوى العلوم اللاهوتية أو الإنسانية، بل قام قداسة البابا بتكريم خريجي الكليات الإكليريكية والمعاهد الدينية منذ 2002 إلى 2013، بالإضافة إلى إقامة أول معرض للكتاب القبطي داخل الكاتدرائية تحت رعاية قداسته، يضم جميع الناشرين للكتاب القبطي على مستوى مصر، الأمر الذي أتاح فرصة رائعة للدراسين والقراء من أبناء الكنيسة للتزود بالمعرفة المسيحية.

وذلك يعبر عن رؤيته العلمية الحديثة وإيمانه بتطوير التعليم في الكنيسة الأرثوذكسية، بما يتناسب مع الكتاب المقدس والتاريخ والتقليد الكنسي، وأن التعليم الكنسي من المحاور المهمة في تكملة بناء الكنيسة والمجتمع، وأن هذا الاهتمام من قبل قداسة البابا تواضروس الثاني إنما يبشر بحدوث تغييرات هيكلية وجوهرية في التعليم داخل الكنيسة بما يمثل انطلاقة نحو مرحلة جديدة تنهض بكل عناصر العملية التعليمية داخل الكنيسة وعلى المستوى المسيحي العام.

كما دعا إلى تأسيس مجلس كنائس مصر، الذي عنوانه الوحدة في التنوع، وبدأ بالفعل هذا المجلس يؤتي بثمار رائعة من خلال أنشطته على مستوى اللجان التي تشكلت بداخله.

ما سبق من ذكره هو أحد الجوانب على سبيل المثال لا الحصر، لاهتمام قداسة البابا بجوهر الكنيسة الأساسي، وأما على صعيد الوطن، فقد شارك وساهم بصورة أساسية في التحام اللحمة الوطنية للشعب المصري، وظهر ذلك جليا في 30 يونيو وأيضا أمام موقفه عندما حرقت كنائس مصر في الصعيد، ورأى أن البشر أهم من الحجر مما دعا الشعب المسيحي ليقدم صورة رائعة للتضحية والبذل من أجل مصر، فقدم المسيحون وعلى رأسهم قداسة البابا صورة متجلية أمام العالم لوعي الأقباط وحرصهم على سلامة الوطن، وأرى أن هذا الموقف موقف تاريخي كُتب بسطور من ذهب، ويدل على القدرة الروحية التي تجلت لإخراج روح البذل والتضحية في المفهوم المسيحي من قلوب الأقباط.

كما رفض قداسته تدخل الخارج بحجة حماية الأقليات، مشددا على أن الكنيسة القبطية وطنية وترفض التدخل الأجنبي في شئون مصر الداخلية.

بل كل المواقف العصيبة التي مرت بالكنيسة والأقباط، كان يدعو قداسته الجميع لإعمال العقل حفاظًا على سلامة الوطن ووحدته، فحبه وخوفه على مصر لم ينقطع لحظة بدافع وطني جارف بل لم ينحصر الأمر على ذلك، ففي كل رحلاته خارج مصر على مستوى الخدمة يحمل مصر في قلبه وفي عقله، ويبني جسورا مع كنائس ودول انقطعت علاقاتنا بهم من سنوات وسنوات، وذلك دليل على إدراكه اللحظة التاريخية التي تعيشها مصر ومدى احتياج مصر لكل المجهودات لتُبنَى بصورة قوية.

وليس أدل على ذلك رحلة قداسته الأخيرة إلى روسيا، وكيف أعاد وفتح جسورا بين الكنيسة الروسية والكنيسة المصرية بل بنى جسورا بين مصر وبين روسيا بحديثه عن مصر الجديدة وعن قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي وعن موقف الأقباط الوطني في الوقوف بجانب وطنهم.

وأخيرا وليس بآخر، المواقف كثيرة والثمار أكثر، ولكن أقول إن قداسة البابا تواضروس هو عطية السماء للكنيسة واختيار ليكون قدر مصر ومصر قدره في هذه اللحظة التاريخية من عمر الوطن، وأقول أيضا كل عام وقداستكم بخير والكنيسة ومصر في عهدكم إلى الأمام.
Advertisements
الجريدة الرسمية