رئيس التحرير
عصام كامل

نحن نعيش الآن فوضوية القرن التاسع عشر


الفوضوية هي حصيلة حركتين كبيرتين من حركات الفكر في ميداني الاقتصاد والسياسة تميز بها النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ويعتقد الفوضويون أصحاب هذا المذهب أن الملكية الخاصة للأرض ورأس المال والمعدات قد ولى عهدها وأصبحت الملكية المشتركة للمجتمع هي الواجبة من أجل الإنتاج.


لذلك لا يلجأ المفكر الفوضوى إلى أي تصورات ميتا فيزيقية مثل (الحقوق الطبيعية) أو (واجبات الدولة) وغير ذلك، لكنه يتبع الطريق الذي رسمته الفلسفة الحديثة للتطور، فهو يدرس المجتمع البشرى كما هو الآن وكما كان في الماضى دون أن ينسب لكل فرد بمفرده صفات سامية لا يملكها ولكنه ينظر للمجتمع محاولا أن يكشف ميله في الماضى والحاضر، وحاجاته المتنامية فكريا واقتصاديا وعندما يحدد مثله الأعلى فإنه يتجه إلى التطور لكى يمكنه أن يميز بين الميول والرغبات وبين العوارض كالحاجة إلى (المعرفة - الحروب – الهجرة) التي حالت بين إشباع هذه الميول على نحو يعود بالخير على المجتمع ككل الذي ينحو اتجاه التطور فما عادت مسألة إيمان وأمنيات بقدر ما هى مسألة تخضع للنقاش العلمى.

ولنا أن نعى النحو الهائل للاشتراكية في القرنين التاسع عشر والعشرين، والانتشار السريع لنظريتها بين الطبقات العامة في كثير من الشعوب وذلك بعد أن حقق هذا النظام قدرات هائلة في الإنتاج تمخض عن المزيد من الثروات وتراكمها.

هذا النظام الذي أثبت صحته حتى في بدايات القرن الحادى والعشرين الذي تعثر فيه النظام العالمى الجديد فكان مؤداه هذه الكارثة المالية العالمية حيث كان يعتمد على رأسمالية الشركات عابرة القارات الأمر الذي أدى إلى عولمة الاقتصاد الذي انهار هو الآخر وشمل كل دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

ولقد أثبتت الفوضوية بعد مشوار طويل أنها تتماشى والنتائج التي اهتدت إليها فلسفة التطور التي بينت بدورها على المدى الطويل على ضوء ما حدث من صراع على البقاء، أنه قد ثبت أن الأصلح أو الأنسب، هم الذين جمعوا بين المعرفة الفكرية والمعرفة اللازمة لإنتاج الثروة وليس أولئك الذين يتمتعون بالثراء الآن لأنهم هم وأجدادهم قد جمعوا هذه الثروة اعتمادًا على القوة التي تمتعوا بها بعض الوقت.

لذلك نجد أن فلسفة التطور بعد أن درست الحياة البشرية من تطور بيولوجى، فإنها انتهت لنفس النتيجة التي انتهى إليها الفوضويون بعد دراسة التاريخ حيث أي تقدم لاحق في المجتمع يتوافق مع الاتجاه الذي يخضع الثروة للعدالة الاشتراكية والعمل المتكامل بالإضافة إلى أكبر قدر من الحرية.

فإذا تأملنا التاريخ سنرى أن العصور التي شقت فيها جماعات صغيرة من البشرية عصا الطاعة ضد سلطان حكامها قد استعادت حريتها كانت عصورًا تحقق فيها أكبر قدر من التقدم الاقتصادى والفكرى ولو لاحظنا بعناية التقدم الراهن عند الأمم المتحضرة فلسوف نكتشف الحركة الملحوظة نحو الحد الهائل من مجال فاعلية الحكومة، ما يساعد على نطاق أوسع لحرية الفرد.

ويرى كروبوتكين (أمير من طبقة النبلاء في عهد قيصر روسيا وعالم جغرافي) أن الفوضوية هي المخرج الوحيد من المأزق السياسي والاجتماعى والاقتصادى الذي وجدنا أنفسنا فيه، وعرف كروبوتكين أن التاريخ والتطور قد أشارا إلى الفوضوية على أنها الخطوة التالية لمستقبل البشرية، واعترف كذلك بعض فلاسفة السياسة بأن الفوضوية أمر مرغوب فيه كمثل أعلى، ويثبت كروبوتكين في تحليله أن الفوضوية (الأناركية) أمر قابل للتحقق الآن لأن المأزق السياسي الحاضر والتاريخ والتطور كل هذه العوامل تستحثنا على ذلك.

وعلى ذلك عرف كروبوتكين كيف يشجب العنف المتعمد من الدولة بملء المعتقلات من صنوف الشعب المشارك في الثورة على الظلم، وسلب الحريات، وتكميم الأفواه، أما النقاد الذين يسعون للانتقاص من الأناركية ( الفوضوية ) وينسبون إليها هذه الأحداث في كثير من الأحيان، لذلك نجد بعض فلاسفة السياسة يعترفون أن الفوضوية أمر مرغوب فيه كمثل أعلى، ولكنهم إما رفضوها لعدم صلاحيتها للتطبيق العملى، أو تنبئوا بتحققها في مكان ما في المستقبل البعيد (وهذا ما نشاهده اليوم في كل العالم) وخاصة عالمنا العربى والإسلامى.
Dr_hamdy@hotmail.c0m
الجريدة الرسمية