رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

وزير الأوقاف الأسبق الدكتور عبد الفضيل القوصى يكتب: المنهج الأزهرى والشخصية الأزهرية

وزير الأوقاف الأسبق
وزير الأوقاف الأسبق الدكتور عبد الفضيل القوصى

ربما يفهم البعض أن علوم الأزهر عبارة عن مجموعة من العلوم المكدسة دون نظام أو ترتيب، وان التعليم الأزهري يقوم على حشو الأذهان بتلك العلوم القديمة بطريقة عشوائية اعتباطية، هذا فهم شائع ينبغي تصحيحه، فالمنهج الأزهري منظومة متماسكة تتكون من دوائر ثلاث متتابعة هي: الدائرة الخاصة، ثم الدائرة العامة، ثم دائرة الضوابط والمواجهات الحاكمة للدائرتين السابقتين.


أما الدائرة الأولى، وهي الدائرة الخاصة فهي تتعلق بالعلم الخاص المفرد كعلم الفقه مثلا، وكذا غيره من العلوم
أما الدائرة الثانية، فتتعلق بعلاقة هذا العلم الخاص بغيره من العلوم الإسلامية ورتبته ودرجته بين العلوم الاخري، وما هي العلوم التي ينبغي تعلمها قبل الإقدام علية، وما هي العلوم التي ينبغي تعلمها بعد أن يكتمل هذا العلم
أما الدائرة الثالثة، فهي الضوابط والمواجهات التي تتعلق بالدائرتين السابقتين من حيث أخلاقياتها وآدابها وتوجيهها لمنفعة الناس ولحسن العلاقة مع الله تعالي
في الدائرة الأولى، اسمحوا لي بأن ألقي على مسامعكم بيتين من الشعر التعليمي يحفظها الطالب الأزهري منذ صغره:
مبـــادئ كل علــــــــــــــم عشرة
ونسبــة وفضـــله والواضـــــــــع
مسائـل، والبعض بالبعض اكتفي الحد والموضوع ثم الثمــــــــــرة
والاسم الاستمداد حكم الشــــارع
ومن دري الجميع حاز الشرفــــا
فكل علم خاص يحتاج الطالب الأزهري – حين يخطو أول خطواته فيه – أن يعرف عشرة أمور تضمنها هذان البيتان وهي باختصار شديد: تعريفه، موضوعه، وثمرة البحث فيه، وفضله، ومن الذي ابتكره، وما هي أسماؤه، وما مصادره ومراجعه، وما حكم الشرع في تعلمه، وما هي رءوس مسائله التي يبحث فيها
ويطول بنا الحديث لو شرحنا كل واحد من هذه الأمور العشرة، لكن الذي يهمنا هنا هو أن نقول أن هذه الأمور العشرة هي بمثابة الأهداف التي يضعها الطالب الأزهري نصب عينيه، وهو يدرس أي علم من العلوم، لكي يراجع نفسه في كل فترة عن مقدار ما أنجزه من هذه الأهداف، وما الذي قصر فيه، وما أسباب قصوره.

يتم وضع هذا العلم الخاص – كعلم الفقه في مثالنا السابق – في مكانه من منظومة العلوم الإسلامية الشاملة، ذلك أن هناك علومًا تسمي أحيانا (علوم الآلة) أو علوم (الوسائل) لابد من دراستها قبل البدء في دراسة علوم أخرى تالية، وهناك علوم تسمي أحيانا (علوم الغايات) أو (المقاصد) تلزم دراستها بعد جراية هذا العلم الخاص، كما لا يسمح للطالب الأزهري أن يدرس (الموسوعات) في أي علم من تلك العلوم إلا بعد أن يدرس (المختصرات ) ولا يسمح له بدراسة الشروح والحواشي والهوامش إلا بعد دراسة المتون، والتلخيصيات لكي تكون خطواته العلمية متدرجة بحسب قدراته وإمكاناته العقلية والعمرية والنفسية.

يهمنا هنا في هذه الدائرة الثانية أن نذكر أن العقلية الأزهرية ابتكرت علمين دقيقين لتقنين النقاش بين جميع العلوم المشتركة في الدائرة الثانية: هما علم أدب البحث والمناظرة، وعلم الخلاف، ويضم هذان العلمان مجموعة متكاملة من الضوابط التي تقنن اختلاف الآراء، حتى لا يتحول النقاش العلمي إلى "جدل عقيم"، فالمقصود الأول في العقلية الأزهرية هو تحري الحقيقة المجردة، والقبول بتعددية الآراء ووزنها جميعا بميزان الشرع والعقل.

ومن هذه "الضوابط" على سبيل المثال: عدم التعجل في إصدار الأحكام، وموضوعية النقاش، والاتفاق منذ البدء على محور الاختلاف ومحاور الاتفاق، والتفرقة بين الأمور القطعية التي ينبغي الاتفاق عليها أولا، وبين الأمور الظنية القابلة لتعدد الآراء
الدائرة الثالثة: دائرة الضوابط والمواجهات الحاكمة لكل من الدائرتين السابقتين، فالمنهج الأزهري يغرس في الذهنية الأزهرية: التواضع في طلب العلم، واقتران العلم بالعمل، والخشية من الله تعالي والخوف منه سواء في التعلم أو التعليم، ويحذر المنهج الأزهري من أن يكون الهدف من طلب العلم: علو المنزلة بين الناس، أو التكسب المادي، كما يحذر من الجرأة على دين الله تعالي، ويأمر بان يوظف العلم في خدمة الإنسانية، وفي تيسير الحياة على الناس، وفي إصلاح حال الدنيا حضارة وعمرانا وتقدما.

هذا المنهج الأزهري التميز بمكوناته الثلاثة السابقة يثمر ما ندعوه (الشخصية الأزهرية ) التي يعرفها الناس جميعا، والتي تتمثل فيها عدة خصائص:
أولاها: رحابة الأفق وقبول التعددية في الاتجاهات المختلفة في الموضوع الواحد، والموضوعات المختلفة، ومقابلة الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان
ثانيها: التوسط بين الآراء المختلفة ومحاولة الجمع بينهما، وهو ما يسمي في التراث الأزهري ( إزالة التعارض بين المختلفات)، ففي مجال الفقه المقارن مثلًا – وكذلك في مجال أصول الفقه، وكذلك في مجال العقائد وغيرها – تتمتع الشخصية الأزهرية بالقدرة على المقارنات المتعمقة بين المذاهب والخروج منها بالوسط الذهبي – إذا استخدمنا التعبير الأرسطي – وهذه المقارنات تدريب المقارنات تدرب الشخصية الأزهرية على عدم التسليم برأي ما لم يكن قائمًا على أساس سليم، حتى ولو صدر هذا الرأي من أستاذ يتمتع بشهرة واسعة في العلم الذي يدرسه، فالمبدأ الذي يحفظه الأزهري منذ صغره ( لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله)، ولقد حفظ التراث الأزهري قدرًا من المناقشات التي كانت تثور بين الآباء الأساتذة والأبناء التلامذة
فالقاضي عبد الجبار وابنه أبو هاشم كانا يختلفان في كثير من المسائل لدرجة أن الابن (أبا هاشم ) كان يوقظ أباه من النوم في منتصف أليل لكي يراجعه في درس الصباح، ويختلف معه فيما تعلمه منه، ويرفض ما يرفض ويقبل ما يقبل
كذلك حفظ لنا التراث الأزهري أن الشيخ بهاء الدين السبكي كان يري رأيا في شرح أحاديث كتاب (الموطأ) للإمام مالك، بينما رأي والده تقي الدين السبكي رأيا مخالفا لرأي أبيه، فكتب كل منهما رسالة يعارض فيها رأي الأخر..وهكذا
وفي مجال العقائد نجد الطالب الأزهري منذ نعومة إظفاره يتعرف على أراء الفلاسفة وأراء المعتزلة وأراء الماتريدية والاشاعرة والامامية والزيدية، ويناقشها في ضوء النقل والعقل مناقشة مستفيضة مطولة
ثالثها: أن الشخصية الأزهرية بمكوناتها الثلاثة التي ذكرناها تنفر نفورًا شديدًا من (التكفير )، بل كل ما يؤدي إلى التكفير، ذلك أن الطالب الأزهري يدرك منذ نشأته أن اخطر الفتن التي تؤدي إلى فرقة المسلمين وانقسامهم وتفتت كلمتهم هو التكفير، فالطالب الأزهري يدرس مثلًا كتاب (فيصل التفرقة) للإمام الغزالي، وكتاب (جوهرة التوحيد ) أو غيرها من الكتب الأزهرية فيجد في ذاته الباطنه خوفًا هائلًا ورعبا شديدًا من الاتهام (بالتكفير) دون مراجعة وبحث وتدقيق، بل أنه يميل إلى التماس الأعذار لمن يختلف معه في الرأي حتى يبتعد النقاش عن هذه الدائرة المخيفة (دائرة التكفير)، ولو أن هذه القيمة الأزهرية سادت بين المسلمين لتجنب العالم كله ويلات الإرهاب والعنف والتدمير.
Advertisements
الجريدة الرسمية