رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

عبد الحليم محمود شيخ الأزهر في مواجهة الرئيس

الشيخ عبد الحليم
الشيخ عبد الحليم محمود

كان الشيخ عبد الحليم محمود كالأسد الجسور ينطلق في كل ميدان، بعزيمة لا تفتر وجهد لا يترنح، حارب في عدة جهات، حارب الوجودية حين هبت فئة تدعو لها كمذهب حر يجب أن يسود الناس، فأخذ الشيخ يتساءل عن مكمن الحرية في المذهب الوجودي؟ أهى حرية مطلقة بحيث تصبح اعتداء على حقوق الآخرين، لينال امتداده في أي مكان وإن كان يحتله سواه؟

وإذن فهى حرية فرد تنال بظلم فرد آخر، أم هي حرية مقيدة تراعى الوضع العام ليعيش الناس جميعا في سلام؟
وإذن ما الفرق بينها وبين الحرية في منطق الإسلام ؟ ثم إذا كانت هذه الحرية في مرآة الوجوديين داعية إلى قضاء كل رغبة يتعشقها المرء، فماذا يصنع هذا الوجودى إذا اصطدم بوجودى آخر يريد أن يقطف الثمرة من يده.


تولى الشيخ «عبد الحليم محمود «١٩١٠-١٩٧٨» «مشيخة الأزهر في ظروف بالغة الحرج، وذلك بعد مرور أكثر من 10 سنوات على صدور قانون الأزهر سنة 1961م الذي توسع في التعليم المدنى ومعاهده العليا، وألغى جماعة كبار العلماء، وقلص سلطات شيخ الأزهر، وغلّ يده في إدارة شئونه، وأعطاها لوزير الأوقاف وشئون الأزهر، وهو الأمر الذي عجّل بصدام عنيف بين «محمود شلتوت» شيخ الأزهر الذي صدر القانون في عهده وبين تلميذه الدكتور «محمد البهي» الذي كان يتولى منصب وزارة الأوقاف، وفشلت محاولات الشيخ شلتوت في استرداد سلطاته، وإصلاح الأوضاع المقلوبة.

صدر قرار تعيين الشيخ عبد الحليم محمود شيخًا للأزهر في 27 مارس 1973م، وكان هذا هو المكان الطبيعى الذي أعدته المقادير له، وما كاد الشيخ يمارس أعباء منصبه وينهض بدوره على خير وجه حتى بوغت بصدور قرار جديد من «أنور السادات» رئيس الجمهورية في 7 يوليو 1974م يكاد يجرد شيخ الأزهر مما تبقى له من اختصاصات ويمنحها لوزير الأوقاف والأزهر، وما كان من الشيخ إلا أن قدم استقالته لرئيس الجمهورية على الفور، معتبرًا أن هذا القرار يغض من قدر المنصب الجليل ويعوقه عن أداء رسالته الروحية في مصر والعالم العربى والإسلامي.

روجع الإمام في أمر استقالته، وتدخل الحكماء لإثنائه عن قراره، لكن الشيخ أصر عليها، وامتنع عن الذهاب إلى مكتبه، ورفض الحصول على راتبه، وطلب تسوية معاشه، وأحدثت هذه الاستقالة دويًا هائلًا في مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي، وتقدم أحد المحامين الغيورين برفع دعوى حسبة أمام محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة ضد رئيس الجمهورية ووزير الأوقاف «بصفتيهما»، طالبًا وقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية.

إزاء هذا الموقف الملتهب اضطر السادات إلى معاودة النظر في قراره ودراسة المشكلة من جديد، وأصدر قرارًا أعاد فيه الأمر إلى نصابه، جاء فيه: «شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأى في كل ما يتصل بالشئون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والعربية في الأزهر».

كما تضمن القرار أن يعامل شيخ الأزهر معاملة الوزير من حيث المرتب والمعاش، ويكون ترتيبه في الأسبقية قبل الوزراء مباشرة، وانتهت الأزمة وعاد الشيخ إلى منصبه ليواصل جهاده ومحاولات إصلاح الأزهر.

بدت بوادر الإصلاح واضحة في أداء الشيخ عبد الحليم محمود بعد توليه أمانة مجمع البحوث الإسلامية الذي حل محل جماعة كبار العلماء، فبدأ بتكوين الجهاز الفنى والإدارى للمجمع من أفضل رجال الأزهر، وتجهيزه بمكتبة علمية ضخمة استغل في تكوينها صداقاته وصلاته بكبار المؤلفين والباحثين.

عمل الشيخ على توفير الكفاءات العلمية التي تتلاءم مع رسالة المجمع العالمية، وفى عهده تم عقد مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية، وتوالى انعقاده بانتظام، كما أقنع المسئولين بتخصيص قطعة أرض فسيحة بمدينة نصر لتضم المجمع وأجهزته العلمية والإدارية، ثم عنى بمكتبة الأزهر الكبرى، ونجح في تخصيص قطعة أرض مجاورة للأزهر لتقام عليها.

كان للشيخ عبد الحليم محمود رأى قاطع حول تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال الرسالة التي بعث بها لسيد مرعى مساعد رئيس الجمهورية وممدوح سالم رئيس الوزراء قائلًا:«قد آن الأوان لإرواء الأشواق الظامئة في القلوب إلى وضع شريعة الله بيننا في موضعها الصحيح ليبدلنا الله بعسرنا يسرا وبخوفنا أمنا».

ساهم الإمام عبد الحليم محمود في تكوين لجنة بمجمع البحوث الإسلامية، لتقنين الشريعة الإسلامية في صيغة مواد قانونية تسهل استخراج الأحكام الفقهية على غرار القوانين الوضعية، فأتمت اللجنة تقنين القانون المدنى كله في كل مذهب من المذاهب الأربعة.

في أكتوبر من العام 1977 أوصى المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية الذي انعقد بالقاهرة بأن يقوم الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية «بوضع دستور إسلامى ليكون تحت طلب أية دولة تريد أن تأخذ بالشريعة الإسلامية منهاجًا لحياتها»، وقال المجمع في توصيته: أنه «يرى أن تؤخذ في الاعتبار عند وضع هذا الدستور أن يعتمد على المبادئ المتفق عليها بين المذاهب الإسلامية كلما أمكن ذلك».

وتنفيذا لهذه التوصية أصدر شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود في الخامس من يناير عام 1978م قرارا حمل رقم (11) بتشكيل لجنة من «مجمع البحوث الإسلامية» لوضع الدستور.

وبناء على ذلك قام فضيلته بوصفه رئيسا لمجمع البحوث الإسلامية بتأليف لجنة عليا بجانب أعضاء «لجنة الأبحاث الدستورية» بالمجمع ونخبة من كبار الشخصيات المشتغلين بالفقه الإسلامى والقانون الدستورى لتتولى هذه المهمة.
ثم قررت اللجنة المشار إليها عند اجتماعها تأليف لجنة فرعية منبثقة عن اللجنة العليا تضع الدراسات والبحوث ومشروع هذا الدستور على أن يدعى لهذه اللجنة الشخصيات التي يمكن أن تسهم في وضع هذا المشروع، فتشكلت اللجنة على أعلى مستوى من مستويات الفكر والعلم والفهم والدراية من بين الأساتذة العلماء أعضاء المجمع وغيرهم، ثم تابعت اللجنة اجتماعاتها أسبوعيا بصفة دورية حتى انتهت من إعداد المشروع ووضعه في صيغته النهائية، فأعدوا دستورًا إسلاميًا على أتم وجه وأكمله، وقام الإمام الأكبر بتسليم وثيقته للجهات المسئولة آنذاك، تضمن مشروع الدستور تسعة أبواب تحتوى على ثلاث وتسعين مادة مفصلة.

تولى الشيخ عبد الحليم محمود مشيخة الأزهر في وقت اشتدت فيه الحاجة لإقامة قاعدة عريضة من المعاهد الدينية التي تقلص عددها وعجزت عن إمداد جامعة الأزهر بكلياتها العشرين بأعداد كافية من الطلاب، وهو الأمر الذي جعل جامعة الأزهر تستقبل أعدادا كبيرة من حملة الثانوية العامة بالمدارس، وهم لا يتزودون بثقافة دينية وعربية تؤهلهم أن يكونوا حماة الإسلام.

أدرك الشيخ خطورة هذا الموقف فجاب القرى والمدن يدعو الناس للتبرع لإنشاء المعاهد الدينية، فلبى الناس دعوته وأقبلوا عليه متبرعين، ولم تكن ميزانية الأزهر تسمح بتحقيق آمال الشيخ في التوسع في التعليم الأزهري، فكفاه الناس مؤونة ذلك، وكان لصلاته العميقة بالحكام وذوى النفوذ والتأثير وثقة الناس فيه أثر في تحقيق ما يصبو إليه، فزادت المعاهد في عهده على نحو لم يعرفه الأزهر من قبل.

وظل عبدالحليم محمود هكذا حتى ادركه الموت يوم الثلاثاء الموافق 17 أكتوبر 1978م تاركا ذكرى طيبة ونموذجًا لما يجب أن يكون عليه شيخ الأزهر.

المصادر:
موقع الإمام عبد الحليم محمود
موقع التجديد العربى
Advertisements
الجريدة الرسمية