رئيس التحرير
عصام كامل

الوسطية والاعتدال منهجًا للحياة


ما أحوجنا في هذه الأيام التي شاع فيها التطرف الفكري والديني والسياسي إلى الاعتدال، والوسطية التي تفتح أبواب العقول والقلوب على الحياة، وتُعلي من قيمة التعايش والإخاء واحترام الآخر مهما كانت قناعاته، وسطية تقاوم الموروثات الثقافية التي تدعو للانغلاق والتقوقع، وسطية تسعي إلى مد جسور الثقة بين بني البشر بعيدا عن النعرات الطائفية، وكافة أشكال التميز التي تفسد على الإنسان إنسانيته، وتدخله في صراعات وحماقات لا يجني منها سوي الأزمات والمشكلات، فالوسطية المتزنة التي تنأي بالعقل عن الشطط والغلو هي السبيل الوحيد لضمان وحدة وسلامة المجتمع من استنزاف طاقاته في صراعات الكراهية والفتنة، والانقسام والتشرذم، فكلما زاد إيمان المجتمع بالوسطية والتعددية، ازداد تماسكًا.. حيث تكمن أهمية الوسطية في سعيها الدائم إلى تعضيد فكرة الوفاق والتوافق دون إفراط أو تفريط، مع مراعاة الواقع وضرورياته وأولوياته، فقد أثبتت التجارب أن الوسطية ضرورة ملحة في كل المناحي الإنسانية والحياتية لمواجهة أصحاب الخلل الفكري الذين انتقلوا من دائرة التفكير للتكفير وأخيرا للتفجير وإراقة الدماء.

الوسطية لا تعني بالضرورة الوقوف في منتصف الطريق بين عقيدة وخلافها، وبين الفكرة ونقيضها وبين التوجه وعكسه، وإنما تعني حالة من التعقل والتروي وتفهم الآخر واعتماد فضيلة الحوار كمنهج وأسلوب للنقاش الذي يبني ولا يهدم، إن الوسطية إلى جانب معانيها اللغوية والاصطلاحية التي تنطوي على العدل والخير، فهي تحقق للإنسان السلام الفكري والروحي لأنها تخلق له حالة من التوازن، بالإضافة لتبني الوسطية منهج المشاركة والإصلاح وفق آليات النضال السلمي التي تعمل على توسيع دائرة حقوق الإنسان، والحريات ونبذ التصادم والعنف..

 وعلي الرغم من أهمية الوسطية كمنهج للحياة ينبغي على بني الإنسان اتباعه لما فيه من خير، إلا أن الوسطية أصبحت عملية صعبة ومعقدة التعريف، بسبب الالتباس في وضع حدود لها فالوسطية ليست إجماعا.. كما أنها تختلف باختلاف المجتمعات، فعلي سبيل المثال ما نعتبره في مجتمعاتنا الشرقية وسطية لا ينطبق بالضرورة مع مقاييس الوسطية الغربية.

إذًا.. الوسطية ليست مجرد مفهوم أو مصطلح، إنما نسق ثقافي له آلياته في العمل وأسلوبه في التأثير ومنهجه في التفكير، فلا يمكن سيادة قيم الوسطية ما لم تكتمل جميع مقدماتها التي تقوم على سلسلة من العمليات الفكرية التي يخضع لها الفرد والمجتمع.

الوسطية لا تقتصر على النواحي الفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية فقط، بل هناك أيضا الوسطية الاقتصادية التي تعتمد على إحداث توازن بين الأقطاب الاقتصادية، بهدف تحقيق تنمية شاملة، من خلال مشروع ربط بين لإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والإداري من جهة، وبين اقتصاديات السوق المتوحشة من جهة أخرى، لتشكيل نموذج يسهم في رفع المستويات الإنتاجية وتحقيق قدر من الاستقرار والاطمئنان المجتمعي، الوسطية هي الأفق الذي ينبغي أن نتحرك نحوه لإتمام عملية البناء والتنمية الشاملة والبناء الحضاري.. فبمقدار التمسك بالوسطية وتوازناتها ترتقي المجتمعات وبناؤها الحضاري وترسخ أركانها، فليس لقوة مهما بلغت أن تهزم أو تهدم حضارة قائمة على الفكر الوسطي، الذي ينقل الإنسان إلى وضع أفضل يواكب متطلبات العصر ويلبي احتياجاته.
الجريدة الرسمية