رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

النهاية

فيتو

لم يكن سيد قطب،، يعلم أن فجر يوم 29 أغسطس عام 1966 سيخط نهاية حياته فوق حبل المشنقة، في القضية رقم 12 لسنة 1965 جنايات أمن الدولة العليا، وقدم للمحاكمة، بعد أن أسندت إليه مع سبعة من رفاقه أنهم في الفترة من 1959 حتى آخر عام 1965، عملوا على قلب نظام الحكم بالقوة وتغيير دستور الدولة وشكل الحكومة، بأن ألفوا من بينهم تجمعًا حركيا وتنظيمًا سريًا مسلحًا للإخوان المسلمين، تولى زعامته سيد قطب، يهدف إلى تغيير نظام الحكم القائم بالقوة باغتيال رئيس الجمهورية والقائمين على الحكم وتخريب المنشآت العامة وإثارة الفتنة.


كان سيد قطب يعلم جيدًا أنه سيتم إعدامه لأفكاره التكفيرية، وقبل الإعدام كتب «قطب» وثيقة نشرت في كتاب بعنوان «لماذا أعدموني؟» قال فيها «يجب أن اعترف بذلك – كنت أحاول أولًا وقبل كل شيء حماية مجموعة من الشباب، الذي عمل معى في هذه الحركة بقدر ما أملك لاعتقادى أن هذا الشباب من خيرة من تحمل الأرض في هذا الجيل كله، وأنه ذخيرة للإسلام وللإنسانية حرام أن تبدد وتهدر».

كان «قطب» على قناعة بأن ما يفعله وما يقدمه من أفكار تكفيرية، هي أفكار صحيحة لا يأيتها الباطل وأن عليه أن يحمى هؤلاء الذين اقتنعوا بفكرته من الإخوان فكتب في وثيقته «إننى مطالب أمام الله بأن أبذل ما أملك لنجاتهم، وإن ذلك البيان المجمل الذي لا يحتوى كل التفاصيل الدقيقة هو كل ما أملكه في الظرف الحاضر للتخفيف عنهم، وقد يشملنى هذا التخفيف ضمنًا، ولكن الله يعلم أن شخصى لم يكن في حسابي، وقد احتملت المسئولية كاملة منذ أول كلمة».

قطب كان يؤمن بأفكاره التي قدمها عبر كتابه «معالم في الطريق» وأيضًا رئاسته للتنظيم السرى للإخوان، فكتب في «لماذا أعدموني؟» الوثيقة التي خطها بيده «قلت: إنه آن أن يقدم إنسان مسلم رأسه ثمنًا لإعلان وجود حركة إسلامية وتنظيم غير مصرح به قام أصلًا على أساس أنه قاعدة لإقامة النظام الإسلامي، أيًا كانت الوسائل التي سيستخدمها لذلك، وهذا في عرف القوانين الأرضية جريمة تستحق الإعدام!».

كان «سيد قطب» يعتبر نفسه أسير حرب وكان يقول «الأسير المسلم لا ينبغى له أن يدل على ما وراءه من جند الإسلام ولا يكشف مقاتل المسلمين وعوراتهم ما أمكنه، وقد كنت أؤدى واجبى بمفهومى الإسلامى متعاملًا فيه مع الله بغض النظر عن نظرة القوانين والهيئات البشرية»، حسبما جاء في «لماذا أعدموني؟».

لم يكتف سيد قطب بوثيقته الخطية التي سرد فيها تاريخه مع الجماعة وقناعاته الفكرية، لكنه أرسل رسالة لأخته قبل إعدامه مباشرة كتب فيها «عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهى بانتهاء عمرنا المحدود! أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا وجه هذه الأرض! إننا نربح أضعاف عمرنا الفردى في هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهما، فتصور الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا».

كان يحسب سيد قطب حسابا للمشاعر أكثر من عدد السنين خاصة مع صدور حكم إعدامه فقال في رسالته «فليست الحياة بعدد السنين، ولكنها بعدد المشاعر، وما يسميه الواقعيون في هذه الحالة وهما! هو في الواقع حقيقة أصح من كل حقائقهم! لأن الحياة ليست شيئا آخر غير شعور الإنسان بالحياة.. جَرد أي إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي! ومتى أحس الإنسان شعورا مضاعفا بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلا. يبدو لى أن المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى جدال! إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!»

اعتمد سيد قطب على فكرة المظلومية والإحساس بأنه على الحق فيما يكتب ويعتقد، وأن ما كان يخطه من خلال أفكاره التكفيرية هي الحق واعتمد إظهار ذلك في رسالته الأخيرة لشقيقته عندما كتب «بذرة الشر تهيج، ولكن بذرة الخير تثمر، إن الأولى ترتفع في الفضاء سريعا، ولكن جذورها في التربة قريبة، حتى لتحجب عن شجرة الخير النور والهواء ولكن شجرة الخير تظل في نموها البطيء، لأن عمق جذورها في التربة يعوضها عن الدفء والهواء. مع أننا حين نتجاوز المظهر المزور البراق لشجرة الشر، ونفحص عن قوتها الحقيقية وصلابتها، تبدو لنا واهنة هشة نافشة في غير صلابة حقيقية! على حين تصبر شجرة الخير على البلاء، وتتماسك للعاصفة، وتظل في نموها الهادئ البطيء، لا تحفل بما ترجمها به شجرة الشر من أقذاء وأشواك! عندما نلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، نجد أن هناك خيرا كثيرا قد لا تراه العيون أول وهلة! لقد جربت ذلك.. جربته مع الكثيرين.. حتى الذين يبدون في أول الأمر أنهم شريرون أو فقراء الشعور».

حاول «قطب» تهدئة نفسه وتأكيد أنه على حق وما تبناه من أفكار للكشف عن الإيمان داخل الإنسان حين قال «شيء من العطف على أخطائهم، وحماقتهم، شيء من الود الحقيقى لهم، شيء من العناية- غير المتصنعة- باهتماماتهم وهمومهم؛ ثم ينكشف لك النبع الخير في نفوسهم، حين يمنحونك حبهم ومودتهم وثقتهم، في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، متى أعطيتهم إياه في صدق وصفاء وإخلاص، إن الشر ليس عميقًا في النفس الإنسانية إلى الحد الذي نتصوره أحيانا؛ إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء؛ فإذا آمنوا تكشفت تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية. هذه الثمرة الحلوة، إنما تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقى على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم وعلى حماقتهم كذلك».

وتصل وتيرة طمأنته لنفسه لدرجة شعوره بأن موته يجعله في سبيل فكرته أكثر تسامحًا «وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون، لقد جربت ذلك، جربته بنفسي. فلست أطلقها مجرد كلمات مجنحة وليدة أحلام وأوهام! عندما تنمو في نفوسنا بذور الحب والعطف والخير نعفى أنفسنا من أعباء ومشقات كثيرة.. إننا لن نكون في حاجة إلى أن نتملق الآخرين لأننا سنكون يومئذ صادقين مخلصين إذ نزجى إليهم الثناء.. إننا سنكشف في نفوسهم عن كنوز من الخير وسنجد لهم مزايا طيبة نثنى عليها حين نثنى ونحن صادقون؛ ولن يعدم إنسان ناحية خيرة أو مزية حسنة تؤهله لكلمة طيبة، ولكننا لا نطلع عليها ولا نراها إلا حين تنمو في نفوسنا بذرة الحب! كذلك لن نكون في حاجة لأن نحمل أنفسنا مؤونة التضايق منهم ولا حتى مؤونة الصبر على أخطائهم وحماقاتهم؛ لأننا سنعطف على مواضع الضعف والنقص ولن نفتش عليها لنراها يوما تنمو في نفوسنا بذرة الحب!»
وبالرغم من إحساس النهاية واقترابها إلا أن الأديب «سيد قطب» قرر أن يرتقى على المفكر التكفيرى «سيد قطب» ليطلق عبارات تخلو من الحقد والخوف مع قرب النهاية، كما في رسالته الأخيرة لأخته «بطبيعة الحال لن نجشم أنفسنا عناء الحقد عليهم أو عبء الحذر منهم، فإنما نحقد على الآخرين لأن بذرة الخير لم تنم في نفوسنا نموا كافيا ونتخوف منهم لأن عنصر الثقة بالخير ينقصنا! كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة، حين نمنح الآخرين عطفنا وحبنا وثقتنا، يوم تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف والخير؟! حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحا، أو أطيب منهم قلبا، أو أرحب منهم نفسا أو أذكى منهم عقلا لا نكون قد صنعنا شيئا كبيرا».

حتى آخر دقيقة كان سيد قطب يعتقد أن ما يفعله هو الأفضل وأفكاره التي قدمها من خلال كتاباته هي الأسمى وأن عليه نشرها «لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبيل وأقلها مؤونة! إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع! إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية أو أن نتملق هؤلاء الناس ونثنى على رذائلهم».

يقول اللواء فؤاد علام في كتابه «الإخوان.. وأنا»- صفحة 165- «إنه في اليوم المقرر لتنفيذ حكم الإعدام توجه إلى السجن الحربى بمدينة نصر واصطحب ثلاثتهم بسيارات الحراسة إلى سجن الاستئناف الواقع خلف مديرية أمن القاهرة، وفى حديث سيد قطب معه وهو في طريقه إلى السجن «كرر أكثر من مرة أن مشكلته في عقله لأنه مفكر وكاتب إسلامى كبير وأن الحكومة لا تملك إلا أن تقضى على العقل الإسلامى الكبير حتى تنفرد بأعمالها ضد الإسلام حسب تصوره، وبعد الوصول إلى سجن الاستئناف فهم سيد قطب أن حبل المشنقة في انتظاره بعد لحظات، فازداد توتره حتى وصل إلى حد الانهيار وظل يردد أنه مفكر إسلامى وأن الحكومة لم تجد سبيلًا للقضاء على أفكاره إلا بإعدامه، ثم جرت مراسم تنفيذ الحكم، ثم خلعوا عنه بدلته وألبسوه البدلة الحمراء، وسئل إن كان يطلب شيئًا فطلب كوب ماء شربه وأدى صلاة الفجر ثم دخل غرفة الإعدام وتم تنفيذ الحكم».
Advertisements
الجريدة الرسمية