رئيس التحرير
عصام كامل

النوبة قضية عادلة وأنظمة ظالمة


أنهار من لبن وعسل وعد بها الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» أبناء النوبة، أثناء زيارته التاريخية لبلادهم عام (1960) في إطار مساعيه لإقناعهم بالتخلي عن أراضيهم لبناء «السد العالي» مقابل منحهم تعويضات مناسبة وأرض بديلة صالحة للزراعة والسكن، حيث طمأنهم وقتها قائلًا: أرجو أن يشعر كل فرد فيكم أننا نعامل أبناء هذه الأمة معاملة واحدة مبنية على الحق والحرية والمساواة، وأن السد لن يعطي الخيرات للشمال فقط بل لأبناء الوطن جميعًا، إلا أن القدر لم يمهله الوقت الكافي ليفي بوعده، وانتقل إلى جوار ربه، تاركًا أهل النوبة فريسة للتهجير وسنوات من القهر والعذاب على يد الأنظمة المتعاقبة، التي أهملتهم وتجاهلت مطالبهم ورفضت منحهم التعويضات، حتى تلك الأرض التي وعدهم بها «ناصر» باعتها الدولة فيما بعد للمستثمرين الأجانب.


النوبة القديمة تمثل حالة عشق فريدة لأهلها الذين ينقسمون إلى ثلاثة فروع الكنوز، العرب، الفاديجا، وجميعهم كان يعمل بالزراعة والفلاحة في أرضهم البالغ مساحتها (350كم) والتي تميزت بالخصوبة العالية نتيجة لترسبات طرح النيل، ولأن دوام الحال من المحال فقد ضاقت بهم سبل الحياة بعد تهجيرهم إلى«وادي كركر» حيث الأرض الصخرية غير القابلة للزراعة، ونقص الخدمات، وعدم وجود بنية تحتية تشعرهم بآدميتهم المهدرة على يد حكومات لم تقدر التضحية التي قام بها أبناء النوبة، لكي تحيا مصر آمنة مائيًا.

ونظرًا لهذه الظروف الصعبة، لجأ الكثير منهم للسفر إلى القاهرة والمحافظات، بحثا عن الرزق والاستقرار، كما سافر شباب العائلات إلى دول الخليج سعيًا وراء لقمة العيش، في ظل غياب تام لدور الحكومة، التي لا تتذكر النوبة وأهلها إلا وقت الانتخابات ووقوع الأزمات، وماعدا ذلك يظلون خارج دائرة اهتماماتها.

والحقيقة أن الظلم الواقع على النوبيين لم يكن من الدولة فقط، بل ظلمتهم السينما أيضًا، فعلى مدى عقود طويلة تعمدت إهانتهم، ورسخت في أذهان المصريين صورة سلبية عنهم تتسم بعنصرية مُهينه لا تتناسب مع كونهم السكان الأصليون لمصر، كما اختزلتهم الأعمال السينمائية والدرامية في شخصية عثمان البواب وعبده السفرجي، وبشير السائق، وكأنهم مواطنون درجة ثانية.

إهدار الدولة لحقوق أهل النوبة وتراخيها عن تلبية مطالبهم شجع ضعاف النفوس على الصيد في الماء العكر، واستغلال حالة الاحتقان النوبية، للترويج لفكرة تدويل أزمتهم واعتبارهم أقلية «مضطهدة!! »تمهيدا للمطالبة بالانفصال عن مصر، وإنشاء دولة نوبية أسوة بما حدث في جنوب السودان، إلا أن هذه المحاولات الخسيسة قابلها النوبيون أنفسهم بالرفض، وأعلنوا أنهم جزء لا يتجزأ من مصر، ولا يمكن أن ينفصلوا عنها بأي حال من الأحوال، مؤكدين أنهم وطنيون وليسوا خونة يسعون لتقسيم البلاد، كما يروج الإعلام الذي تعمد تشويه الحقيقة وإظهارهم بمظهر الانفصاليين.

عشرات السنين مرت على تهجير النوبيين، إلا أن قلوبهم مازالت معلقة ببلادهم القديمة الغارقة تحت مياه بحيرة ناصر، ولم يتخلوا يومًا عن حلم العودة إلى موطنهم الأصلي، ذاك الحلم الذي تتوارثه الأجيال النوبية، فـالنوبة في مورثوهم الفكري ليست مجرد أرض بل عرض وروح ودماء تجري في العروق، وربما لهذا السبب تقوقع النوبيون على أنفسهم واحتفظوا بتراثهم ولغتهم، عادتهم وتقاليدهم خوفا من طمس هويتهم.

ولأن أهل النوبة تحملوا الكثير من أجل هذا الوطن فقد كافأتهم مصر أخيرًا بمادة في«الدستور» تحمي حقوقهم، حيث نصت المادة رقم(236)، على أن الدولة تكفل وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية، والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة، وذلك بمشاركة أهلها في مشروعات التنمية وفى أولوية الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلى، خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون. ما جاء في الدستور يُعد إنصافًا لأهل النوبة ولا يتبقى إلا أن تقوم الدولة بواجبها نحوهم بتفعيل هذه المادة ووضعها قيد التنفيذ وترجمتها إلى مشاريع على أرض الواقع.
الجريدة الرسمية