رئيس التحرير
عصام كامل

إعادة الاعتبار لكامب ديفيد


بمناسبة مرور 36 عاما على توقيع معاهدة كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978 طالعتنا الأخبار بأن الطائرات المصرية تقوم بقصف مواقع تجمع جماعات مسلحة متطرفة في سيناء على بعد خمسة أمتار من الحدود الإسرائيلية.. ما يثبت أن الوهم الذي حاولت دفعه إلينا جماعات الشر والإرهاب على مدى عقود أن الاتفاقية تحد من قدرة مصر على حماية حدودها أو أمنها القومى أو تقلل من استقلالها..ما هي إلا فتن حان الوقت للتصدى لها وأن يعرف المصريون والعالم أجمع أن ما أقدمت عليه مصر هو ما قاله الرئيس الراحل أنور السادات لحظة التوقيع على معاهدة كامب ديفيد " لقد جئنا لكامب ديفيد بكل ما تحمل طاقتنا من حسن نية وإيمان وتركنا كامب ديفيد منذ لحظات بطاقة متجددة من الأمل والروحانية ".. إلى أن طالت يد الشر والإثم والإرهاب روح الرجل وقتلته ودارت على مدى الأعوام تقضى على الأمل وتحطم من الروحانية ومن قدرة بناء السلام.


في الواقع إن ما وقع عليه الرئيس السادات في هذا اليوم لم يكن حتى اتفاقية سلام كما أطلق عليها.. إنما كانت ورقة عمل (Fram Work) وصفها الرئيس الأمريكى كارتر في نفس اليوم "أنها ورقتا عمل تتعلقان بالمبادئ التي ستتحكم في بناء سلام عادل"....

الورقة الأولى تتعلق بمستقبل الضفة الغربية وغزة وتؤكد حل المشكلة الفلسطينية بجميع أوجهها وتقترح 5 سنوات فترة انتقالية للضفة وغزة تقوم خلالها القوات الإسرائيلية بالانسحاب الكامل وإقامة حكومة فلسطينية منتخبة يسمح لها بدخول مباشر في مباحثات حول مستقبل الدولة الفلسطينية.

أما الورقة الثانية فهى تنص على ممارسة المصريين مطلق السيادة على سيناء والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية منها.

وجاءت الأحداث الأخيرة لتخرس السفهاء وتعلن مرة أخرى جهل وإفلاس من لا يعترفون أن الذهاب إلى كامب ديفيد كان لتبنى سياسة جديدة وإستراتيجية متفاعلة مع العالم وأساليب سياسية أثبتت أنها قادرة على تحقيق الانسحاب الإسرائيلى من الأرض.. لم يقدر بعدها لأى انسحاب آخر أن يتحقق أو يكتمل لأى أرض عربية احتلت في 1967.. وأن الذهاب إلى كامب ديفيد لم يكن يحقق نتائجه إلا بعد أن أدى الجيش المصرى العظيم ملحمة عبور قناة السويس.. صانعا لمصر ولفلسطين والأمة العربية جميعا "درعا وسيف " يحسب له الحساب إلى وقتنا هذا.

إن الذهاب إلى كامب ديفيد كان هو الدعوة إلى خلق أجواء ومبادرات تساعد العرب والفلسطينيين على تحقيق الغرض ومواجهة للواقع بدلا من تجاهل الحقائق ولم يكن قط تخليا عن المبادئ.. بل بناء شركاء للسلام.. وتحميلهم مسئولية الانسحاب من الأرض المحتلة سواء من الجانب الأمريكى أو الإسرائيلى..

إن كامب ديفيد أعادت بناء الرأى العام العالمى نحو عدالة القضية العربية بعد فقدان الثقة بتحقيق أي تقدم وأعاد التصور للعالم أنه من الممكن تحقيق نتائج وأن الطريق الوحيد للنجاح هو النقاش وطرح المسائل وليس التفجير والانتحار وأن المجهود الصادق ممكن أن يعيد الحقوق

إن القول إن الرئيس السادات قد أعطى إسرائيل الحق في الوجود ووعدها بالسلام والأمن والاعتراف بعد الانسحاب من حدود 1967 وإقامة الحكم الذاتى تعقبه الدولة الفلسطينية هو تماما ما حاول العرب جميعا خلال الستين عاما الماضية تقديمه.. بدءا من مبادرة الملك عبد الله عام 2002 ووصولا إلى المباحثات الفلسطينية الإسرائيلية القائمة الآن.. لم تكن معاهدة كامب ديفيد لأجل المباحثات ولا حتى عقد الاتفاقات.. لكن كانت لإنهاء المشكلة والقضاء على الوهم ووقف التطرف والإرهاب عن التعامل مع الشعوب.. لم تكن المباحثات هي الهدف والنهاية بل الوصول إلى الغاية والوصول إلى حلول للأرض والحدود والأمن.

كامب ديفيد خلعت الوصاية على الأمريكيين في الشرق الأوسط بحيث لم يعد الأمر احتكارا لهم بل جعل منهم أوصياء ومراقبين فقط وجعل المسئولية على دول المنطقة نفسها.

وكذلك أبعد الأفكار السخيفة مثل أن الأردن هي فلسطين.. إنه كان التفكير الإستراتيجي السليم المتبنى لأفكار عاقلة وبناء لدبلوماسية مصرية متفاعلة مع العالم.

خلق كامب ديفيد لأول مرة ولآخر مرة في تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى اعترافا من إسرائيل "بالحدود" أين نقف؟ وأين يقفون؟ وأين الخط الذي يمكننا الدفاع عنه؟ وبناء علاقات إنسانية ممكن من خلالها تصور إقامة سلام بدلا من انسياقنا وراء الأشباح والقوى التي لا تقهر التي صنعناها لأنفسنا لسنوات..

كامب ديفيد أثبتت أنه لا خير في عمل لا شىء وليس بقاء الوضع على ما هو عليه هو أحسن الفروض..

كامب ديفيد أثبتت أن مصر سواء بالحرب أو بالسلام عندها البدائل بعد أن تتوقف جميع القوى الأخرى عن تحقيق أدنى تقدم لصالح الشعوب وأنار الطريق الذي على الجميع أن يسلكه لحل المشكلة قاطعا على الإرهاب وقوى الشر رغبتها الجامحة لنشر الجهل والدمار.

يكفينا الآن أن كامب ديفيد وما أعقبها من اتفاقات سواء اتفاقية الأردن أو السلام المصرية هي الحقائق الوحيدة الثابتة والمحترمة والمراقبة من القوى الدولية على أرض الشرق الأوسط.. ولا داعي بعد الآن أن يشعر المصريون بالعورة.
الجريدة الرسمية