رئيس التحرير
عصام كامل

عبده تلوث


من حق عبده تلوث أن يطلق على نفسه هذا الاسم، وهو المطعم الذي يقدم لرواده ما يضعونه في بطونهم طالما وجد زبائن تقدم عليه، ومن حقه أن يعبر عن مرحلة تصف نفسها بنفس المنطق، وتتهافت على مطعم هذا اسمه؛ فقد كنا حتى وقت قريب نسخر فيما بيننا عندما نتوجه إلى منطقة السيدة زينب ونتناول وجبة فول لدى مطعم الجحش الشهير، وإن كان للجحش تفسير آخر أكثر منطقية.. والجحش هو الحمار في سن طفولته، حيث ينتقل من حرحور إلى جحش، ومن ثم ينتقل إلى مرحلة «الحمورية» أي يصبح حمارا، وقد كان في مصر وفى منطقة حلوان بالتحديد واحدة من أقدم الجمعيات الأهلية تطلق على نفسها جمعية الحمير، وكان من أعضائها مفكرون وكتاب وشعراء وفنانون أبرزهم نادية لطفى وتوفيق الحكيم وأنيس منصور وغيرهم من روادنا الكبار.


ويبدو أن عصر الحمير كان عصر عطاء يقترن عطاؤه بما يقدمه الحمار للبشرية، أما عصر عبده تلوث فهو أبعد بكثير عن هذه الصورة، فالأخير تعدى حدود التلوث إلى منطقة القذارة، حيث يقال إن هناك مطعما آخر اسمه عبده قذارة، وأتصور أن الأمور تعدت أيضا منطقة طعام البطون إلى غذاء العقول، بعد أن أصبح عبده تلوث قاسما مشتركا في كافة مناحى الحياة.

في زمن الفخر بالتلوث يصبح عبده تلوث واحدا من الجماعة الصحفية، وآخر في الجماعة الفكرية، وثالثا في الجماعة الأدبية، ولكل منهم جمهور يقبل على ما يقدمون من ألوان شتى وأنواع مختلفة من التلوث.

وعبده تلوث حالة مرتبطة بالانحدار والانحطاط الاجتماعى والفكرى والأخلاقي، قد تراها بوضوح فيما آلت إليه أحوال البلاد والعباد، والتكالب على قيم اللا قيم وتحويلها إلى منتج يتشابه إلى حد كبير مع مستوى مطربى هذه الأيام أو معظمهم.. فلو ظهرت أم كلثوم اليوم قد يتفوق عليها جماهيريا أي عبده تلوث من هؤلاء المنتشرين على قارعة الطريق، ولو عاد عبد الوهاب فقد يفضل الرحيل بعد انتشار موجات التلوث، وهو الذي كان يغسل الصابون بالصابون إمعانا في النظافة كقيمة آمن بها.

وعبده تلوث ليس حالة أصيلة في مجتمعنا، وإنما هي حالة طفيلية طارئة سرعان ما تنتهى وتختفى وتصبح في خبر كان مع عودة الوعى النائم أو المفقود تحت تلال الضباب وعدم وضوح الرؤية ومترادفات عبده تلوث كثيرة.. ففى السينما ظهر إبراهيم الأبيض الذي نشر السنج في الشوارع كما نشر الأنبياء رسالاتهم، وفى الغناء ظهرت «هاتى بوسة يابت» في مواجهة البنت التي كانت تردد قديما «اوعى تكلمنى بابا جاى ورايا»!!

وبالمتابعة، سترى عبده تلوث زميلا أو جارا أو صديقا وستضطر للتعامل معه وذلك تحت شعار اصبر على جارك السو.. ليرحل أو تجيله «مصيبة»، وهو الأمر الذي يجب أن يتغير لأن عبده تلوث لن يرحل، ولن تواجهه مصيبة أكبر من اسمه، وليس لديه ما يخاف عليه ؛ فتجارته رائجة طالما لم يقرر المجتمع إعلان الحرب على كل تلوث عقلى وفكرى وسياسي، أما التلوث الغذائى فهو الأقل خطرا لأنه يصيب البطون ولاينفذ إلى العقول.
الجريدة الرسمية