رئيس التحرير
عصام كامل

السيد ياسين.. عندما يصنع الفشل ناجحًا بدرجة "قدير"

السيد ياسين
السيد ياسين

« هو شخصية استثنائية بكل المعايير، كما أنه شخصية موسوعية في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، وهو ضمير فكرى وثقافى للأمة، ويقف على أرضية وطنية وإيمان منه بالدور القومى الإنسانى لمصر والمثقفين العرب»، هكذا وصف الدكتور مصطفى الفقى، المفكر السياسي والباحث الكبير السيد يسين «95 عاما»، معتبرا مقالاته في عدد من كيريات الصحف المصريه والعربية «وجبة متكاملة تضم مختلف الأمور والمجالات.

والسيد ياسين، هو كاتب وباحث اجتماع، أبصر النور في 30 أكتوبر سنة 1919 في محافظة الإسكندرية، وتخرج في كلية الحقوق، جامعة الإسكندرية، كان كتاب الفيلسوف هوايتهيد الشهير «مغامرات فكرية» صاحب الأثر الأكبر في حياته، حتى أنه يقول عنه: «ما زلت احتفظ بنسخة من هذا الكتاب حتى الآن، كان الكتاب صعبًا، ولكنه كان ممتعًا ومفيدًا، ومثّل بالنسبة لى لحظة الاكتشاف الأولى. في هذه الفترة اكتشفت مكتبة علم النفس التكاملى التي يشرف عليها أستاذنا يوسف مراد، ودخلت مجال علم النفس من أوسع أبوابه»، مضيفا: «امتدت هذه الفترة من عام 1946 إلى عام 1952، وفى هذه الفترة أيضًا كنت أتلمس طريقى داخل عالم الشعر، وكنت بالغ الإعجاب بالشاعر الرهيب «تى إس إليوت»، وبدأت في هذه الأثناء أولى تجاربى في كتابة الشعر والقصة القصيرة، وتكونت مجموعة من الأصدقاء من محبى الأدب كانوا يجتمعون في منزلى في حى راغب باشا بالإسكندرية للمناقشة والاستماع، وهنا كانت محطة فشل لنا جميعًا نحن المجتمعين في منزلى من المبدعين الصغار، فلم يصمد أكثرنا أمام متطلبات تجربة الإبداع ولم يكمل أحدنا الطريق. لكننى لم أجد الفرصة للشعور بالفشل، إذ سرعان ما انتقلت إلى كتابة الخواطر والتأملات والمقالات الفلسفية ثم كانت نقلة أخرى».

يمثل عام 1950 نقطة تحول بارزة في حياته إذ يقول عنه: « كان له أثر بالغ في بناء شخصيتى وفى تكويني، ففى هذا العام استطاع أحد زملائى بالمدرسة أن يضمنى إلى الإخوان المسلمين، وسرعان ما أصبحت أخًا، وكنت نشيطًا وحيويًا وموضع انتباه من الإخوة، وقد أمل فيَّ الكثيرون الخير على هذا الطريق، وعلى ذلك فقد رشحت لأكون دارسًا في مدرسة الدعاة بشعبة محرم بك في العطارين بالإسكندرية، وكان المشرف على المدرسة شيخًا أزهريًا ضريرًا، يعمل مدرسًا في المعهد الدينى بالإسكندرية وهو المرحوم الشيخ مصطفى الشمارقة، كنا ندرس القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه والسيرة في مدرسة الدعاة، كما كنا ندرس المذاهب السياسية المعاصرة، وقد طالعنا في هذه الأثناء كتابات أبى الحسن الندوي، وسيد قطب والشيخ الغزالي».

يتذكر ياسين هذه الفترة جيدا حيث يروى: « كان الشيخ الشمارقة ذا أثر بالغ في حياتى كلها، وأذكر جيدًا أنه كان معجبًا بالدكتور طه حسين وكان يهفو إلى تقليده في الجمع بين الدراسة الأزهرية والدراسة الحديثة، فالتحق بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، واختارنى الشيخ الشمارقة مع مجموعة من الأصدقاء، فأصبحت قارئًا مستديمًا له، قرأت مع شيخى كل مقرراته، ودرست معه كل المناهج بحسب دائرة المعرفة، «وكانت كلية الآداب وقتها» زاخرة بمجموعة رائعة من الأساتذة الموهوبين، وتخرجت في مدرسة الدعاة خطيبًا إسلاميًا معتمدًا، وكنت أمارس الخطابة باقتدار في مساجد الإسكندرية حسب التكليفات التي تصدر من قبل الإخوان المسلمين.

« استطاعت مدرسة الدعاة أن تغيرنى بالكامل، من صبى خجول منطو يقبع بالساعات في غرفة منفردة لكى يقرأ، إلى صبى يتسم بشخصية انبساطية، لديه القدرة على مواجهة الجماهير في صلاة الجمعة من كل أسبوع»، هكذا يقول الكاتب الكبير، مضيفا: « أفادنى هذا التدريب المبكر على الخطابة، فيما بعد، حين أصبحت باحثًا ألقى البحوث في المؤتمرات العلمية أو محاضرًا في جامعة القاهرة والجامعة الأمريكية بالقاهرة.»، ويتابع: «هنا أقول من جديد: إن هذه محطة نجاح، بقدر ما هي محطة فشل، وقد نجحت في أن أكون محاضرًا واضحًا وقادرًا ولكننى بالطبع فشلت في أن أبقى خطيبًا، وفى أن أكمل مسيرة الجمعة من كل أسبوع».

يعود ياسين بذاكرته إلى الوراء نحو ثلاثة أرباع القرن، قائلا: «أراد والدى أن أكون طبيبًا وأردت أن أكون كاتبًا، بدأت بالخطابة وانتقلت إلى الأدب، ودخلت كلية الحقوق وهناك تأثرت كثيرًا بالدكتور حسن صادق المرصفاوى أستاذ القانون الجنائى الذي كان ثانى من أثر فيَّ بعد الشيخ الشمارقة، فقد أسس المرصفاوى تقاليد البحث العلمى في الجامعة بتأسيسه جمعية الأبحاث الجنائية التي دربت أعضاءها على كتابة البحوث العلمية والمناظرة، وسمحت لهم من خلال الزيارات الميدانية للسجون بالتعرف مبكرًا على الفجوة بين النص القانونى والواقع، وقد قدمت بحثًا عن جرائم التزوير تم طبعه وتوزيعه على أعضاء الجمعية، وهو أول عمل بحثى مهم بالنسبة لي، وكان حافزًا لى على خوض غمار البحث العلمى في وقت مبكر، الطريق إلى البحث

في عام 1957 نشرت صحيفة الأهرام إعلانًا عن حاجة المعهد القومى للبحوث الجنائية «المركز القومى للبحوث حاليًا»، إلى باحثين مساعدين من خريجى الحقوق والآداب، حيث يروى ياسين قائلا: « تقدمت للاختبار التحريرى مع 300 خريج، وكان المطلوب 3 فقط، وتمت التصفية الأولى إلى 25 خريجًا، ثم تقدمنا للاختبار الشفهى فاجتزته لإجادتى اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة على عكس الحقوقيين الذين يجيدون الفرنسية، وانضممت إلى المركز الذي أمضيت فيه 18 عامًا، وتركته عام 1975، لكى أصبح مديرًا لمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، سافرت للدراسة في باريس لكى أعد رسالة الدكتوراه في القانون، وذهبت وذاكرتى مشحونة بمغامرات توفيق الحكيم ومحمد مندور في فرنسا، ربما كنت معجبًا بالحكيم الذي سافر لدراسة القانون وانصرف إلى دراسة الأدب، ومندور الذي أمضى 9 سنوات ولم يكمل رسالة الدكتوراه في القانون وإنما ساح في عالم الفكر والأدب».
«درستُ عامًا ونصف العام القانون المدنى الفرنسي»، يحكى ياسين، الذي لم يوفق مرة أخرى، حيث يقول: «ثم ضقت ذرعًا بقواعد المواريث الفرنسية المعقدة، فتركت القانون لكى أتعمق في دراسة علم الاجتماع، وهنا محطة فشل جديدة إذا أردنا إبقاء المفهوم، فقد تركت القانون إلى الاجتماع، واهتممت بعلم الاجتماع الأدبى الذي كان لايزال ناشئًا وقتها عام1964 وكذلك علم الاجتماع السياسي، قلت لنفسى لتذهب الدكتوراه إلى الجحيم، فليس من المعقول أن يضيع باحث مثلى ثلاث سنوات من عمره يتعقب أحكام محكمة النقض، عدت بعد ذلك إلى القاهرة في عام 1967م وهو عام الفشل في مصر: النكسة والهزيمة والمرارة، وهنا اتجهت إلى دراسة المجتمع الإسرائيلى دراسة علمية، وانضممت إلى مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بالأهرام عام 1968».

يقول ياسين: « كان تأثير محمد حسنين هيكل على تكوينى في هذه المرحلة عميقًا، فقد كان هيكل هو الذي فتح أمامنا آفاق البحوث الإستراتيجية حين قرر تحويل المعهد إلى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، ودفعنى هذا التحول إلى التعمق في دراسة مناهج ونظريات البحوث الإستراتيجية. وإذا كانت هذه هي رحلة عمر، فشل هنا ونجاح هناك، فإننى أشعر تمامًا بالرضا، وبأن الفشل كان تحولًا أكثر منه إخفاقًا، وأن النجاح كان حياة أكثر منه إنجازًا، واعترف بأن نجاحى الأكبر الذي شاء الله له الغياب هو زوجتى ليلى عبد العزيز رحمها الله التي تغطى ذكراها عندى على ما كان من نقص وارتباك. وكم أتمنى أن تمضى حياتى الآن بمثل ما كانت مزيجًا من التحول والتطور».

لم يدعم السيد ياسين أي نظام دكتاتورى عربي، كما لم يدعم السياسة الأمريكية أو ينغمس في التطبيع مع إسرائيل، ولم يدعم نشأة الفكر الأصولى الإرهابى التكفيري، ولم تؤد كتاباته إلى إثارة النعرات الطائفية والدينية والعرقية، وحقق تأثيرا بحثيا وفكريا إيجابيا في العقل العربي، فاستحق أن يكون ضمن قائمة أفضل 100 مفكر عربي، ضمن الاستفتاء الذي أجرته إحدى الجهات الأردنية.
الجريدة الرسمية