رئيس التحرير
عصام كامل

من يعيد للثقافة المصرية مجدها وجدارتها؟


كانت هناك ثورة علمية عظيمة في ثلاثينيات القرن الماضى، قام بها نخبة من أكبر وأهم كتاب ومبدعى مصر الذين خلفوا لنا مئات المؤلفات في شتى أنواع المعرفة، ومنهم من كان يحمل هموم الوطن على كتفيه، ومنهم من كان زعيما لثورة لم تكتمل ضد المحتل المستعمر الإنجليزى الذي جثم على قلب البلاد أكثر من 75 سنة، وأنا في هذا السياق لن أتعرض لذكر هؤلاء العظماء؛ فكل واحد منهم يمثل جبلا من المعرفة كادت تندثر منذ سنة 1975، وحتى ذلك اليوم الذي أجهز فيه كل وزراء الثقافة المتتاليين اعتبارا من 1980 وحتى هذه اللحظة التي اعتلى فيها الكرسى واحد من كبار مثقفى مصر منذ قرابة شهرين ونيف إلا أنه لم يستطع أن يحرك ساكنا في عودة لمحة واحدة من تاريخ الثفافة في مصر!


ربما تكون هناك أسباب تقف حاجزا أمامه، من أهمها الاقتصاد المتدنى الذي أجبر السلطة ألا تضع أي اعتبار في الميزانيات المتعاقبة لهؤلاء الوزراء الذين تقلدوا كرسى وزارة الثقافة منذ 25 يناير بالقدر الكافى الذي يمكنهم من تنفيذ خططهم، لكن لماذا أضاع جميعهم عرش الثقافة الذهبى الذي بناه الأولون بكل إمكاناتهم الجسدية والعقلية والمادية بكل هذا الاستخفاف واللامبالاة؟
 
وزير تربع على العرش قرابة الثلاثين سنة كرس كل اهتماماته في إعادة ترميم المساجد والكنائس والآثار، وأهمل بذلك المسرح وكل القائمين عليه من كتاب ومخرجين وممثلين حتى أوصله إلى الموت السريرى، وكل ما بقى منه هو المسرح التجارى والسياحى المبتذل والغث، الهدف هو إلهاء الشعب وإغراقه في الكوميديا الهزيلة الغثة، وما جلبته له من انفتاح في كل شيء غير أخلاقى، الأمر الذي أدى إلى قتل الثقافة والتخلص منها.

أما بالنسبة لفرق الرقص الاستعراضية التي كانت متوهجة بعد ثورة 1952، مثل فرقة رضا والفرقة العربية والاستعراضية والبمبوطية والتي تم الإجهاز عليها جميعا لتنطفئ آخر شمعة لفرقة رضا، بعد أن احترقت كل الشموع المنافسة لها، قالوا لا مكان لمثل هذا الفن بيننا، بعد أن تم انتشاره كالوهج في العالم العربى بأكمله وفى العالم، ولم يكتفوا بهذا، فلقد قام الوزير قبل رحيله بخمس سنوات بغلق ثماني دوريات ثقافية من التي كانت تنتجها الهيئة العامة للكتاب، وخمس دوريات في قصور الثقافة التي توالى عليها من توالى من مبدعين وفنانين لهم قدرهم ومكانتهم، إلا أن الشلل حاصرهم فلم يتمكنوا من إبداع أي شيء غير التحول إلى الأسوا.

قصور الثقافة تمتلك ثلاثة وعشرين قصرا ثقافيا في أنحاء الجمهورية، وأنا أسأل هنا، ماذا قدمت مسارح هذه القصور لجماهيرها؟ كم من دورية تنشر في كل هذه القصور غير نشرات شهرية تتحدث عن أخبار القصر وما يقوم به من نشاط دوري، وهل هناك فرق موسيقية؟ أو فرق شعبية للفولكلور الشعبى؟ لا يوجد غير شعراء وقصاصين من الشعب يعيشون في العراء ليس لهم مأوى؟ قصور مهلهلة والأدهى من ذلك أن القصر الأم في مصر لا يمتلك غير خمس دوريات على مستوى الوطن منهم ثلاثة قصور معطلة، مع أن الوضع الطبيعى لهذه الهيئة بالنسبة للدوريات المفروض لا تقل عن ثلاثين دورية في مختلف الفنون، ولذلك أصبت بخيبة أمل عندما قابلت رئيس الهيئة منذ أسبوعين ليسمعنى أنهم (هو والوزير) في طريقهم لإلغاء الدوريات وسلاسل الكتب لأن الهيئة ليست دارا للنشر، ولكن لها دورا أكبر من هذا! 

فما الذي يجعلنا نتعجب من أن يتعطل دور المجلس الأعلى منذ عشرين سنة في كل نواحيه، هو يسمى (المجلس الأعلى للفنون والآداب) هذا المجلس لا ينشر غير دورية واحدة كل عام، وربما كل عامين، وكل ما يقوم به هو الطباعة والنشر، وأفضل ما قام به هو ما ينتجه المركز القومى للترجمة ليس إلا، كان يعقد الندوات بشكل دوري ويعيد مجد وسير بعض الكتاب المصريين العظام ومدى أثرهم في الثقافة العربية، كانت هناك أمسيات تقام لشعراء فطاحل من كل الدول العربية والإسلامية، كان هناك نقاد أفذاذ، كان المجلس في حركة دائمة ماتت منذ تولى أنيس منصور هذا الصرح العظيم ولم تقم له قائمة منذ ذلك التاريخ.

وأتساءل أين الموسيقي العربية التي صدحت وتنامت منذ 1960 وخفتت وتضاءلت إلى أن أصابها الترنح الذي يضطرها للظهور على مضض في بعض المناسبات، الموسيقى العربية صنعت مطربين وموسيقيين وملحنين وعمالقة قتلتهم وزارة الثقافة كما قتلت كل ما يرقى بالثقافة المصرية والعربية من أجل تسطيح الشباب فكريا وعلميا وثقافيا وقتل ملكة التذوق والفن والجمال لديهم.

أما عن هيئة دار الكتب والوثائق القومية فقد تم الإجهاز عليها تماما بعد ضمها للهيئة العامة للكتاب، حيث هضمت ميزانيتها لصالح هيئة الكتاب وتعرت هي، إلى تم فصلها عن الهيئة سنة 1998 ليتعاقب عليها رؤساء غير متخصصين في عالم المكتبات وفنون التصنيف والفهرسة والتزويد، وعندما قدمنا لهم دراسة عن مشروع كبير عن الفهرسة قبل النشر تعمل به كل دول أوربا وكندا واستراليا والولايات المتحدة، صعب عليهم فهمه حتى بعد أن قام بعض الخبراء المتخصصين في عالم المكتبات بشرح وتوضيح أهمية هذا المشروع لدار كتب تعتبر فريدة في العالم العربى، فما كان إلا أن قامت قطر والرياض ودبى بتنفيذه في مكتباتهم الوطنية ليحققوا بذلك سبقا على مصر (أم الدنيا) والثقافة والفكر والعلماء الذين تتبناهم دول العالم  وتعتبرهم كنوزا لا يصح التفريط فيهم كما فرطوا من قبل في الفيلسوف العربى ابن رشد الذي يحج عند تمثاله البريطانيون في لندن كل عام، بعد استحواذهم على كل علوم فلاسفة العرب في مختلف أنواع المعرفة، أملنا كبير في وزيرنا الحالى أن يعيد للثقافة المصرية رونقها وجدارتها.
الجريدة الرسمية