أزمة الديمقراطية في مصر
ليس هناك شك في أن الديمقراطية في مصر تمر بأزمة عميقة، وأسباب هذه الأزمة في الواقع متعددة، ولو أردنا أن نحددها يمكن لنا أن نطبق ما أطلق عليه المنهج التاريخى النقدى المقارن، وهو المنهج الذي طبقته في كل أبحاثى ودراساتى في مختلف الموضوعات التي تطرقت لها.
والمنهج التاريخى يعنى في المقام الأول التتبع الدقيق لجذور ممارسة الديمقراطية في مصر وهى جذور قديمة حقًا، وربما كانت البدايات إنشاء مجلس شورى القوانين، غير أن المرحلة التي شهدت ازدهارًا حقيقيًا للديمقراطية كانت هي المرحلة الليبرالية، والتي شهدت أزهى عصورها ابتداءً من إصدار دستور 1923 والذي طبق بصورة مستمرة -ما عدا لحظة انقطاع مؤقتة حين أوقف العمل به "إسماعيل صدقى" باشا عام 1930- ثم سرعان ما عاد مرة أخرى إلى التطبيق حتى عام 1953 تاريخ الانقلاب العسكري الذي قام في 23 يوليو، والذي تحول من بعد إلى "ثورة" بعدما تبنى الضباط الأحرار مشروع العدالة الاجتماعية الذي وضعته القوى الوطنية المصرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
غير أن الممارسة الديمقراطية في الحقبة الليبرالية التي أشرنا إليها كانت منقوصة في الواقع، بحكم أن البلاد كانت محتلة بالقوات الإنجليزية.
وهذا الاحتلال –ممثلًا في المندوب السامى البريطانى- كان أحد معوقات تطور ونمو الديمقراطية المصرية، وذلك لأن المندوب السامى متآمر في ذلك مع الملك "فاروق" ووقفوا موقفًا معاديًا لحزب الوفد والذي كان هو حزب الأغلبية، ولذلك أعاقوا استلامه للسلطة بالرغم من نجاحه الساحق في الانتخابات، لدرجة أنه لم يحكم مصر في الفترة من 1923 حتى 1952 سوى ثمانى سنوات فقط.
غير أنه أهم من ذلك أن الأحزاب السياسية المتعددة مثل حزب "الأحرار الدستوريين" والحزب "السعدى" وحتى حزب "الوفد" كانت تمثل في الأساس طبقة كبار الملاك، ولذلك رفضت برلمانات هذا العهد الليبرالى ثلاثة مشروعات للإصلاح الزراعى التي أريد منها تقريب الفجوة بين الطبقات، وبالتالى سقطت الممارسة الديمقراطية، لأنها افتقرت للعدالة الاجتماعية، ناهيك عن أنانية النخب السياسية والحزبية وحرصها على الوصول إلى السلطة بأى ثمن، مما أشاع ظاهرة الانتهازية السياسية، غير أن تطبيق المنهج النقدى يبن لنا أن الممارسة الديمقراطية في العصر الليبرالى افتقرت لما يسمى "الشروط المسبقة للديمقراطية"، وأهمها على الإطلاق اختفاء ظاهرة الأمية وشيوع التعليم العام الذي يسمح للمواطن أن يصوت عن بصيرة، واضعًا في الاعتبار البرامج التي يطرحها ممثلو الأحزاب المختلفة، ومعرفة الفروق بين اليمين والوسط واليسار، ولو طبقنا المنهج المقارن لاكتشفنا لماذا نجحت الديمقراطية في الغرب وفشلت في مصر.
في الغرب تم إنجاز الثورة الصناعية التي اقتضت إنشاء مدارس التعليم العام، مما جعل الوعى الاجتماعى للمواطنين مرتفعًا، بالإضافة إلى وضوح الخريطة السياسية في هذه المجتمعات من زاوية الفروق الواضحة بين أطروحات أحزاب اليمين وأطروحات أحزاب الوسط وأطروحات أحزاب اليسار.
وذلك بالإضافة إلى ارتفاع المستويين الثقافى والسياسي لمن يرشحون أنفسهم في الانتخابات العامة، واختفاء تأثير القبلية والقرابة والرشاوى الانتخابية، لذلك نجحت –إلى حد كبير- الديمقراطية في الغرب وفشلت في بلادنا.
والسؤال الآن ما هي مشكلات الممارسة الديمقراطية في مصر؟
هناك مشكلات متعددة لعل أهمها على الإطلاق الفجوة العميقة بين الأميين والمتعلمين، وربما تكون الظاهرة الأشد وقعًا هي تدنى الوعى الاجتماعى العام، بحكم الأمية والجهل والفقر مما يجعل تصويت الناخبين لأعضاء البرلمان يفتقر إلى الرشد.
فإذا أضفنا إلى ذلك شيوع الأفكار الدينية الرجعية وانتشار الفكر الخرافى، وبروز ظواهر التطرف الدينى والتعصب المذهبى لأدركنا أننا أمام مشكلات اجتماعية وثقافية كبرى.
وإذا أضفنا إلى ذلك تشرذم الائتلافات الثورية للناشطين السياسيين الذين أسهموا في ثورة 25 يناير، وافتقار النخب السياسية والحزبية لرؤى سياسية متكاملة، لأدركنا أيضًا أن هناك حاجة ماسة للتجديد السياسي سواء على مستوى النخبة أو على مستوى الجماهير.